حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام
تسببت تلك الصرخة الهائلة التي أطلقها الكائن الفضائي في فقداني للوعي وحين فتحت عينيّ، شعرت بثقل في رأسي وكأنني كنت نائمًا لقرون. تململت قليلًا، وحين حاولت النهوض، وجدت نفسي مقيّدًا داخل زنزانة معدنية باردة. كانت جدرانها تُصدر وهجًا خافتًا بلون أزرق غريب، وبابها بلا مفصلات أو مقبض، وكأنه قطعة واحدة لا تُفتح ولا تُغلق. تحسّست معصميّ لأجد أصفادًا شفّافة، كأنها مصنوعة من الضوء نفسه. لا ألم، لا إحساس بالضغط، ولكن لا مجال للتحرّك.
"أين أنا؟ وكيف وصلت إلى هنا؟" سألت وأنا أحاول استيعاب الموقف.
كانت الزنزانة الباردة تُصدر صدىً غريبًا مع كل كلمة أقولها. الجدران الزرقاء الشفافة كانت تتلألأ كأنها تحكم عليّ بصمت. شعرت كأنني في قاعة محكمة كونية، وأنا المتهم الوحيد.
نظرت حولي فلم يكن هناك سوى مقعد عائم في الهواء، وعليه جلس كائن فضائي يختلف عن ذاك الذي قابلته أول مرة. كانت ملامحه أكثر حدة، وعيناه تشعّان بلون أخضر نافذ. رفع إحدى حاجبيه، وهو يحدّق بي كما لو كنت تجربة مختبرية مثيرة للاهتمام.
كان الكائن الجديد يبدو أكثر جدية من سابقه. عيناه الخضراء تشعان بذكاء حاد، وكأنه يقرأ أفكاري قبل أن أنطق بها. قال بصوت هادئ لكنه نافذ:
'أنت هنا لأنك تمثل تناقضًا نريد فهمه.'"
أشار بيده، فظهرت أمامي شاشة شفافة عُرض عليها مشهد لقائي مع الفضائي الأول. كان التسجيل يعرضني وأنا أتحدث بحماس عن شمولية الإسلام، وعن كيف أنه يتدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية. ثم جاء الجزء الذي تمنيت لو لم يكن مسجلاً: لحظة انفعالي عندما قال لي الفضائي: هل يحكمكم الإسلام؟
فأجبت بغضب :لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين.
أوقفَ التسجيل وحدّق فيّ مجددًا. ثم بعد برهة قال: هل مازلت تُصرُّ على رأيك؟
شعرت بضغط في صدري، ولكنّي تمالكتُ أعصابي وقلت له بثبات: 'أنا لست خبيرًا، أنا فقط أتبع ما تعلمته.'
ابتسم الكائن بخبث: "وهل تعلمت أن تفصل بين دينك وحياتك؟
"أنت تقول إن دينك يوجّه حياتك في كل شيء، يخبرك بأيّ يد تأكل، وأيّ قدم تدخل بها إلى المسجد، وأيّ جَنب تنام عليه، ولكن حين وصلنا إلى أهم جانب في حياة البشر، الحكم والسياسة، ألغيت دور الدين تمامًا. هذا... غير منطقي."
شعرت بحرارة في وجهي، لكنني تماسكت. "الأمر ليس بهذه البساطة. نحن نعيش في دول حديثة، ولدينا أنظمة معقّدة. الدين شيء شخصي، والسياسة شيء آخر."
"هل هذا ما تؤمن به حقًا؟ أم أنك تكرّره فقط لأنك تربيت عليه؟"
شعرت بوخزة داخلية. كنت قد سمعت هذه العبارات مرارًا، وكررتها حتى أصبحت جزءًا مني، لكنني لم أفكر فيها بهذه الطريقة من قبل. هل كنت أُدافع عن مفهوم لا أفهمه حقًا؟
اقترب الفضائي قليلًا وقال: "على كوكبنا، حين نجد مخلوقًا يقول شيئًا ويفعل نقيضه، نضعه تحت المراقبة. أنت تقول إن الإسلام شامل، ثم تضع له حدودًا حيث يناسبك. هذه ليست قناعة، هذه ازدواجية."
حاولت الرد، لكن الكلمات لم تسعفني. التفتّ بعيدًا، ثم قلت بصوت أقل ثقة مما أردت: "الدين أمر روحي، والسياسة مصلحية. لا يمكن خلطهما."
"وهل يمكن فصل الإنسان عن روحه؟ أم أنك تعتقد أن البشر يبدّلون مبادئهم كما يبدّلون ملابسهم؟"
سألني، ثم ابتسم بخبث وأضاف: "سأتركك تفكّر في ذلك."
"وماذا الآن؟ هل ستبقونني هنا للأبد؟" سألت، محاولًا معرفة مصيري.
"ليس بالضرورة. لدينا نظام منطقي نلتزم به. سنعطيك فرصة لإثبات أن معتقداتك متماسكة ويمكننا فهمها بمنطقنا العلمي. سنأخذك في رحلة عبر الزمن لترى كيف بدأ نظامكم الإسلامي، وسنرى إن كان فعلاً دينكم يشمل الحكم كما يشمل دخول الحمام والخروج منه أم لا."
شعرت بأن هذا قد يكون أخطر نقاش أخوضه في حياتي.
"إذا فشلتُ في إقناعكم؟" سألت بحذر.
"عندها سنعتبر أن أفكاركم متضاربة، وبالتالي فأنتم أقل منّا تطورا، ولن نجد مبررًا حينئذ لعدم استعماركم." قالها ببرود قاتل.
أخذت نفسًا عميقًا. هذه ليست مجرد مناظرة فكرية، بل معركة من أجل إثبات انسجام الإسلام مع ذاته. كنت أمام مهمة تتجاوزني شخصيًا. كنت أمثل أُمّتي في اختبار منطقي مع مخلوقات فضائية قرّرت أن تحكم علينا بناءً على مدى تماسك فكرنا.
"إذن، فلنبدأ الرحلة،" قلتها بثقة، رغم أنني لم أكن واثقًا مما سيأتي بعد ذلك.
"اختفى الكائن الفضائي فجأة، وأُغلقت الأضواء الخافتة، تاركًا إياي وحدي في ظلامٍ بارد. لكنني لم أشعر بالوحدة، بل شعرت بثقل المسؤولية. هذه ليست مجرد مناظرة فكرية، بل فرصة لمراجعة أفكارنا ومعتقداتنا.
هل نحن حقًا نفصل الدين عن الدولة لأن الإسلام يفرض ذلك؟ أم أننا نكرر ما زرعه فينا الاستعمار والثقافات الوافدة؟
ترقبوا في المقال القادم:
كيف كانت
بداية تأسيس الدولة الإسلامية؟ ولماذا رفضت مكة ورؤسائها فكرة الحكم الإسلامي؟
وهل يمكن أن نتعلم من تاريخنا كيف نجمع بين الدين والدولة دون أن نقع في أخطاء
الماضي؟
Comments
Post a Comment