سلسلة الإسلام والبيئة (62): وصية الحكيم الأخيرة إلى أهل العصر
جلستُ إلى جوار الحكيم، وقد بدا عليه الإرهاق، وكأنه يحمل جبالًا من الأحزان على كتفيه. نظر إليَّ بعينين يملؤهما الحزن والرجاء، وقال بصوت مُتهدّج:
— أيها المسافر إلى الماضي، احمل عنّي هذه الأمانة، وبلغها لقومك... قُل لهم إننا هنا نعيش في الخراب الذي صنعته أيديهم، وأن مصيرهم سيكون كمصيرنا إن لم يعودوا إلى رشدهم.
تابع الحكيم بنبرة صارمة:
— إن كنتم تظنون أن ما يصيب الأرض من دمار هو نتيجة المصادفات أو التطورات الطبيعية وحدها، فقد ضللتم الطريق. الكون ليس جمادًا يتحرك بلا معنى، بل هو مرآة تعكس حال الإنسان. إذا صلح الإنسان، أزهرت الأرض، وإذا فسد، تحوّل كل شيء إلى خراب. ألم تسمعوا قول الله تعالى؟
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" الأعراف: 96
ثم أردف بصوت عميق:
— ألم يخبركم نبيّكم عن القوانين الإلهية التي تحكم الأرض؟ استمعوا إلى هذا الحديث جيدًا، فهو وصف دقيق لما يحدث اليوم:
قال رسول الله ﷺ:
"يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن:
لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم.
ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم."
سكت الحكيم قليلًا، ثم قال بحزن:
— تأملوا هذه الخصال... ألا ترونها تتحقق أمام أعينكم؟
— لقد صنعت الجاهلية الحديثة حضارة عظيمة في الظاهر، لكنها قائمة على السراب، لأنها تنطلق من رؤية مادية لا تعرف المسؤولية، تجعل الإنسان سيدًا مطلقًا دون رقيب أو حسيب، فانطلق يسخّر الطبيعة لمصلحته دون قيد، ولو كان ثمن ذلك هو دماء الأجيال القادمة.
ثم نظر إليّ بعينين متألقتين رغم ضعفه، وقال:
— احمل هذه الرسالة لقومك، وقل لهم: لن تصلح البيئة حتى يصلح الإنسان، ولن يصلح الإنسان حتى يعود إلى منهج خالقه. أخبرهم أن سنن الله لا تحابي أحدًا، وأن الفساد الذي ينشرونه في الأرض، سيرتد عليهم مهما طال الزمن.
وقفتُ أنظر إلى الحكيم وهو يغلق عينيه المنهكتين، وقد ترك لي أمانة ثقيلة.. أمانة أن أصرخ في أهلي:
عودوا قبل فوات الأوان.. الأرض تتنفس بأفعالكم، فإن كنتم أهل خير، ستمطر عليكم السماء بركاتها، وإن كنتم أهل فساد، فلن تحصدوا إلا الدمار.
Comments
Post a Comment