سلسلة دروس وعبر من السيرة النبوية الشريفة (14): الهجرة إلى الحبشة
الحقائق التاريخية:
لما رأي الرسول تعنت قريش واستمرارها في تعذيب أصحابه، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكا لا يُظلم أحدا عنده حتى يجعل الله لكم فَرَجاً ومخرجاً مما أنتم فيه" فهاجروا للمرة الأولى اثنا عشر رجلا، وأربع نسوة، ثم عادوا بعد أن علموا بإسلام عمر وإظهار الإسلام، لكنهم ما لبثوا أن عادوا ومعهم آخرون من المؤمنين، وقد بلغ عددهم في الهجرة الثانية إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلا، ومن النساء إحدى عشر.
الدروس المستفادة:
إن في أمر الرسول لأصحابه أولا وثانيا بالهجرة إلى الحبشة ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين ولو اختلفت دياناتهم هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين، فالديانات السماوية في مصدرها وأصولها الصحيحة متفقة في الأهداف الاجتماعية الكبرى كما هي متفقة في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وهذا ما يجعل وشائج القربى بينها أوثق من أية وشيجة من قرابة أو دم أو موطن مع الإلحاد والوثنية والكفر بشرائع الله.
وكما ورد في السيرة أن كفار قريش فرحوا بفوز الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مجوسا يعبدون النار والروم كانوا مسيحيين فكفار قريش رأوا أن المجوس أقرب لهم من الروم رغم أن الفريقين كانوا بعيدين عن ديار العرب ولم يكن لهم منفعة من فوز أحد الفريقين وكما نعرف فقد نزلت سورة الروم حيث تنبأ القرآن الكريم بفوز الروم في بضع سنين وقد طمأن ذلك المسلمين الذين رأوا أن فوز الروم رغم أنهم مسيحيون أفضل عندهم من فوز الفرس لأن الروم كانوا أهل كتاب ولذلك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للحبشة حيث كان ملك الحبشة نصرانيا ولم يرسلهم لأي مكان آخر.
ومن الدروس التي ينبغي الإشارة إليها هنا أنّ على الداعية إذا وجد جماعته في خطر على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة، أن يهيء لهم مكانا يأمنون فيه من عدوان المبطلين، ولا ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية، فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاءاً مبرماً، فيتخلصوا من دعوتهم، وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لاستمرار الدعوة وانتشارها.
أحدث الدراسات:
التضامن بين الأديان السماوية ودوره في مواجهة الاضطهاد:
من خلال علم الاجتماع الديني، يُلاحظ أن التاريخ يظهر أمثلة متعددة على التضامن بين معتنقي الأديان السماوية في مواجهة القهر والظلم. فالأديان التي تشترك في الإيمان بإله واحد وقيم العدالة تميل إلى تقديم الحماية والدعم لبعضها البعض عند الحاجة. يُعدّ موقف النجاشي من المسلمين المهاجرين مثالًا عمليًا على ذلك، حيث تعاطف معهم بناءً على مبادئ دينية وإنسانية مشتركة.
الهجرة كاستراتيجية لإعادة البناء والتطوير:
الهجرة ليست فقط وسيلة للنجاة من الاضطهاد، بل يمكن أن تكون استراتيجية لإعادة بناء المجتمعات ونقل الأفكار الجديدة. الهجرة إلى الحبشة لم تكن مجرد فرار، بل كانت خطوة استباقية لضمان بقاء الدعوة الإسلامية ونقل رسالتها في بيئة آمنة.
أهمية الأمن في مراحل الدعوة الأولى:
توضح دراسات في مجال علم النفس التنظيمي أن الجماعات الصغيرة، وخصوصًا تلك التي تحمل أفكارًا جديدة، تحتاج إلى بيئة آمنة للنمو. هذه البيئة تقلل من الضغط النفسي على الأفراد وتتيح لهم التركيز على تطوير أفكارهم ونشرها. يُمكن ربط هذا بما فعله النبي ﷺ عندما وجّه الصحابة إلى الحبشة، حيث كان الهدف الأساسي ضمان استمرار الدعوة وتوفير الأمان للمؤمنين.
خاتمة:
الهجرة إلى الحبشة كانت محطة حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، أظهرت أهمية التضامن بين الأديان السماوية واستراتيجية استخدام الهجرة كوسيلة لحماية الدعوة وضمان استمرارها. هذا الدرس يتجلى في حاجتنا اليوم إلى التكاتف بين أصحاب المبادئ والقيم المشتركة لمواجهة التحديات والتغلب على الظلم والاستبداد.
Comments
Post a Comment