سلسلة دروس وعبر من السيرة النبوية الشريفة (27): سُراقة وسواري كسرى

Muhammad ﷺ Series

 الحقائق التاريخية:

أرسلت قريش في القبائل تُطمع كل من عثر على الرسول ﷺ وصاحبه، أو قتله، أو أسره، في دفع مبلغ ضخم من المال يُغري الطامعين، فانتدب لذلك سراقة بن جعشم، وأخذ على نفسه أن يتفقدهما ليظفر وحده بالجائزة.

بعد أن انقطع طلب رسول الله ﷺ وصاحبه، خرجا من غار ثور مع دليلهما وأخذا طريق السواحل "ساحل البحر الأحمر" وقطعا مسافة بعيدة أدركهما من بعدها سراقة، فلما اقترب منهما، غاصت قوائم فرسه في الرمل فلم تقدر على السير، وحاول ثلاث مرات أن يحملها على السير جهة الرسول ﷺ فتأبى، عندئذ أيقن سراقة أنه أمام رسول كريم، فطلب من الرسول ﷺ أن يعده بشيء إذا نصره، فوعده النبي بسواري كسرى يلبسهما، ثم عاد سراقة إلى مكة فتظاهر بأنه لم يعثر على أحد.

الدروس المستفادة:

إدراك سراقة للنبي ﷺ وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول ﷺ وقد أدرك سراقة أن للرسول من العناية الإلهية ما تعجز عن إدراكه قوى البشر، فرضي أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد.

وفيه أيضا أن شهرة النبي ﷺ بالصادق الأمين قد حمل سراقة على تصديقه في وعده فلم يشك سراقة أن النبي قد يكذب عليه لينجو بحياته فصدق الرسول في وعده رغم أنه كان مايزال على الشرك.

ونستفيد أيضا أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فقد ألقى الله الرعب في قلب سراقة حين غاصت حوافر فرسه في الرمل ثم جعله حليفا للرسول وهو الذي قد غادر مكة ينوي قتل النبي ﷺ وصاحبه وبعد أن عاد إلى مكة لم ينطق بشيء وربما قد أضل قريش حتى لا يقصدوا المكان الذي رأي فيه رسول الله ﷺ.

وفي وعد الرسول ﷺ لسراقة بأن يلبس سواري كسرى معجزة أخرى، فالإنسان الذي يبدو هارباً من قومه لا يأمل في فتح الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى، إلا إن كان نبيا مرسلا. ولقد تحقق وعد الرسول ﷺ في عهد عمر بن الخطاب ولبس سراقة سواري كسرى.

أحدث الدراسات:

تُظهر الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي كيف يمكن للعلاقات الإنسانية أن تُحدث تغييرًا جذريًا في المواقف، حتى بين أشخاص كانوا على طرفي نقيض. أحد الأبحاث التي نُشرت في مجال ديناميكيات الصراع أكدت أن مواقف العداء يمكن أن تتحول إلى تحالف وثيق إذا توافرت عوامل الثقة والإقناع. في سياق مشابه، نستطيع رؤية أثر الحوار والصدق في تغيير موقف سراقة بن جعشم من عدو محتمل إلى متحالف ضمنيًا مع الرسول ﷺ.

علاوةً على ذلك، تُشير دراسات علم السلوك إلى أن الأزمات التي تضع الإنسان أمام قوى أكبر من قدراته، كالطبيعة أو المصير، قد تدفعه إلى مراجعة مواقفه وقيمه. هذا ما حدث مع سراقة، عندما أدرك أن هناك قوة إلهية تحمي النبي ﷺ، فانقلب موقفه من محاولة القبض عليه إلى احترامه وحمايته.

الخاتمة:

تُبرز قصة سراقة بن جعشم مع النبي ﷺ أبعادًا متعددة من الدروس الإنسانية والإيمانية. فهي تذكّرنا بقدرة الإيمان على كسب القلوب مهما بدت الظروف معاكسة، وتؤكد أن الصدق والثقة يمكن أن يكونا مفتاحًا لتحويل العداوات إلى تحالفات. كما تُظهر أهمية الاعتماد على الله في الأوقات العصيبة، مع الثقة الكاملة في قدرته على تحقيق وعده مهما بدت العوائق صعبة. هذه القيم ليست مجرد دروس تاريخية، بل هي مبادئ صالحة لكل زمان ومكان.

 

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام