سلسلة دروس وعبر من السيرة النبوية الشريفة (4): ذكائه ﷺ وفطنته
الحقائق التاريخية:
كانت تُعرف في النبي ﷺ النجابة من صغره، وتلوح على محياه مخايل الذكاء الذي يحببه إلى كل من رآه، فكان إذا أتى الرسول ﷺ وهو غلام جلس على فراش جده عبدالمطلب، وكان إذا جلس عليه لا يجلس معه على الفراش أحد من أولاده أي أعمام النبي ﷺ، فيحاول أعمامه انتزاعه عن الفراش، فيقول لهم عبدالمطلب: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا.
وعُرف عنه منذ إدراكه رجحان العقل، وأصالة الرأي، وفي حادثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة دليل واضح على هذا، فقد أصاب الكعبة سيل أدي إلى تصدع جدرانها، فقرر أهل مكة هدمها وتجديد بنائها، وفعلوا، فلما وصلوا إلى مكان الحجر الأسود فيها اختلفوا اختلافاً شديداً فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، وأرادت كل قبيلة أن يكون لها هذا الشرف، واشتد النزاع حتى تواعدوا للقتال، ثم ارتضوا أن يحكم بينهم أول داخل من باب بني شيبة. فكان رسول الله ﷺ، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا بحكمه. فلما أخبر بذلك حل المشكلة بما رضي عنه جميع المتنازعين. فقد بسط رداءه ثم أخذ الحجر فوضعه فيه ثم أمرهم أن تأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء فلما رفعوه وبلغ الحجر موضعه أخذه ووضعه بيده الشريفة فرضوا جميعا، وصان الله بوفور عقله وحكمته دماء العرب من أن تُسفك إلى مدى لا يعلمه إلا الله.
الدروس المستفادة:
لا يتأهل لمركز الدعوة وقيادتها إلا الذكي النبيه، فالأغبياء والمتوسطون في نجابتهم أبعد الناس عند جدارة القيادة الفكرية أو الإصلاحية أو الروحية. بل إن من سنن الحياة أن لا يتمكن من القيادة في أي ناحية من نواحي الحياة عن جدارة واستحقاق الأغبياء والمضطربون في تفكيرهم، والشاذون في آرائهم. وإذا واتت الصدفة أو الظروف واحدا من هؤلاء فحملته إلى مركز القيادة، فسرعان ما يهوي إلى الحضيض ويتخلى عنه قومه بعد أن تدلهم أفعاله على غباوته أو شذوذه أو اضطراب تفكيره.
أحدث الدراسات:
دراسة من Stanford Social Innovation Review تبيّن أن القادة الذين يتمتعون بسمعة أخلاقية قوية غالبًا ما يتم قبول قراراتهم بسهولة. وصف النبي ﷺ بـ "الأمين" قبل بعثته كان عاملاً رئيسيًا في قبول حكمه في حادثة الحجر الأسود.
بحث في Leadership Quarterly يشير إلى أن الحكمة والقدرة على اتخاذ قرارات جماعية تفيد الجميع هي من صفات القائد المثالي. النبي ﷺ أظهر هذه الحكمة في حادثة الحجر الأسود، حيث كان قراره يُظهر احترامًا لجميع القبائل دون إقصاء أحد.
تُشير الأبحاث في Journal of Conflict Resolution إلى أن القادة الذين يستخدمون حلولاً مبتكرة للنزاعات يميلون إلى تحقيق السلام الدائم. طريقة النبي ﷺ في استخدام الرداء لجمع القبائل حول حل موحّد تُعد مثالاً عمليًا على هذا النوع من التفكير الإبداعي.
الخاتمة:
الذكاء الفطري والقيادة الحكيمة ليستا صفات يمكن تطويرها بسهولة دون أساس متين من النزاهة والتفكير السليم. النبي ﷺ يمثل نموذجًا خالدًا في القيادة المستندة إلى الحكمة، الإبداع، والعدالة. وفي عالمنا اليوم، يظهر جليًا من خلال الدراسات أن هذه الصفات ضرورية لتحقيق النجاح في القيادة على المستويات كافة.
Comments
Post a Comment