سلسلة دروس وعبر من السيرة النبوية الشريفة (7): الداعية ومعايشة الواقع

 Muhammad ﷺ Series

الحقائق التاريخية:

سافر النبي ﷺ خارج مكة، أولاهما مع عمه أبي طالب حين كان عمره اثني عشرة سنة، وثانيتهما حين كان عمره خمسا وعشرين سنة، متاجرا لخديجة بمالها، وكانت كلتا الرحلتين إلى مدينة بصرى في الشام، وفي كلتيهما كان يسمع من التجار أحاديثهم، ويشاهد آثار البلاد التي مر بها، والعادات التي كان عليها سكانها.

الدروس المستفادة:

إن تجارب الداعية بالسفر ومعاشرة الجماهير والتعرف على عوائد الناس وأوضاعهم ومشكلاتهم لها أثر كبير في نجاح دعوته، فالذين يخالطون الناس في الكتب والمقالات دون أن يختلطوا بهم على مختلف اتجاهاتهم قوم مخفقون في دعوة الإصلاح لا يستمع الناس إليهم، ولا تستجيب العقول لدعوتهم، لما يرى الناس من جهل بأوضاعهم ومشكلاتهم.

فمن أراد أن يصلح المتدينين، عليه أن يعيش معهم في مساجدهم ومجالسهم ومجتمعاتهم. ومن أراد أن يصلح حال العمال والفلاحين، عليه أن يعيش معهم في قراهم ومصانعهم ويؤاكلهم في بيوتهم، ومن أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي نهلوا من معينها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه، ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم.

قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾

وما أبدع القول المأثور: خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟

أحدث الدراسات:

أثر السفر على تطوير الذكاء الثقافي والاجتماعي:

إنّ السفر إلى بيئات وثقافات متنوعة يعزز ما يُعرف بـ"الذكاء الثقافي" (Cultural Intelligence). الأفراد الذين يتنقلون ويتفاعلون مع ثقافات متعددة يكتسبون قدرة أفضل على فهم العادات والتقاليد والمواقف المختلفة، مما يجعلهم أكثر فاعلية في التواصل والإقناع. حياة النبي ﷺ خير مثال على ذلك، إذ استفاد من رحلاته التجارية إلى الشام لفهم أعمق للبيئات الثقافية والاقتصادية خارج مكة، ما مكنه من قيادة الأمة لاحقًا بحكمة وشمولية.

معايشة الواقع وأثرها على القيادة والإصلاح:

إنّ القادة الذين يشاركون مباشرة في مجتمعاتهم ويعيشون ظروف الناس اليومية هم الأكثر تأثيرًا في قيادة الإصلاحات. التجربة الميدانية تُكسبهم قدرة على صياغة حلول عملية وواقعية تتناسب مع احتياجات المجتمع. هذه القاعدة تظهر بوضوح في سيرة النبي ﷺ، حيث جعلته تجاربه الميدانية في السفر والتجارة قادرًا على فهم التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعه بشكل دقيق.

الخاتمة:

فهم الواقع المحيط من خلال التجربة المباشرة هو عنصر أساسي في نجاح أي دعوة إصلاحية. الداعية الذي يتعلم من تجاربه الحياتية ومعايشته للناس يكون أقرب لفهم احتياجاتهم وأقدر على صياغة خطاب مؤثر ومقنع. كما أن الانفتاح على العالم عبر السفر وتبادل الثقافات يُثري العقل ويُكسب الحكمة اللازمة لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، تمامًا كما فعل النبي ﷺ في رحلاته التي جهزته لدور قيادي عالمي عظيم.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام