حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (10): مقاعد تتحدى الجاذبية... وأسئلة تتحدى اليقين
جلست فوق ذلك المقعد المعلّق، الذي يتحدى قوانين الجاذبية في هذا الكوكب، كأنما يقول لي:
"هنا، لا شيء يقيّدك، لا أرض ولا سماء".
تأملتُ حولي وأنا أشعر بخفة غريبة، وكأن ثقل الأرض قد تلاشى عن كتفي. تساءلت في نفسي: هل هؤلاء الفضائيون متحررون فعلًا؟
قد يبدو السؤال غريبًا، لكن لنفكر معًا:
لو طُلب منك أن ترسم صورة تجسد "الحرية"، ماذا سترسم؟
تذكرت قول سعيد بن جبير في تفسيره لقوله تعالى: "إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، حيث قال إن المعنى هو "محررًا للعبادة".
يا له من تفسير عميق! فالتحرر الحقيقي ليس من الجاذبية الأرضية، بل من القيود التي تمنع القلب عن الارتباط بخالقه.
وهنا خطر ببالي معنى جميل يعكس هذا التناقض العجيب بين ما نظنه حرية وما هي عليه حقًا. تذكرت عناوين قصص الراحل الدكتور نبيل فاروق مثل "النار الباردة" و"الجليد المشتعل" و"الضوء الأسود". هذا الأسلوب يُعرف في اللغة العربية بـ"الطباق" أو "التضاد"، وفي الإنجليزية يُطلق عليه "Oxymoron"، مثل العبارات الشهيرة "Open Secret" و "Original Copy" و "Only Choice".
أليس هذا ما يحدث معنا تمامًا عندما نبحث عن الحرية؟
نحن نظنُّ أن الحرية تعني الانفلات من القيود، بينما هي في جوهرها ارتباطٌ وانضباط، لكنها ليست بقيود الأرض بل برباط السماء.
الحرية الحقيقية تبدو، للوهلة الأولى، كتناقض: كلما ازددت خضوعًا لله، ازددت تحررًا من كل ما سواه.
هذا هو الجوهر الحقيقي للتحرر—ظاهره خضوع وباطنه انعتاق.
قطع سلسلة أفكاري دخول الكائن الفضائي، بملابسه الزاهية التي ذكرتني بنقوش قبائل إفريقية تنبض بالألوان والحياة. ابتسامته كانت تنبعث كضوء خافت في فضاء الحوار.
"هل حددت وجهتنا التالية؟ أم عليّ الاختيار هذه المرة؟" قالها وهو يجلس قبالتي.
أجبته وأنا ما زلت غارقًا في أفكاري: "ما زلت أفكر فيما تناقشنا فيه المرة السابقة."
ابتسم بمكر وقال: "دعني أختار إذن. لا وقت للتردد."
راقبته وهو يعدّ المقعد والنظارة لرحلتنا الثانية. لم أستطع مقاومة فضولي، فسألته:
"إلى أين سنذهب هذه المرة؟"
أجاب بحماس:
"بالطبع إلى المدينة المنورة!"
اعترضت بدهشة:
"ولماذا بالطبع؟ أليس في مكة أحداثٌ كافية تدعم نظريتك عن أن الإسلام دين ودولة؟"
توقف عن إعداد الأجهزة، نظر إليّ بنظرة عميقة، ثم قال:
"بالتأكيد. دعني أخبرك ببعضها."
الدعوة السرية والتنظيم:
بدأ النبي ﷺ دعوته في مكة سرًا، يجتمع بأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم. هل تعلم أن هذا لم يكن مجرد تجمع ديني؟ كان مركزًا سريًا للتخطيط والتنظيم، مما يكشف أن الإسلام لم يكن دعوة روحية فقط، بل حركة منظمة تهدف لتغيير الواقع.
توقف قليلًا، ثم أردف:
"هل رأيت يومًا دعوة روحية تحتاج لهذا التنظيم المحكم في بداياتها؟"
المقاطعة:
"تخيل مجتمعًا يقاطعك اقتصاديًا واجتماعيًا بالكامل! هذا ما حدث للنبي وأصحابه في شعب أبي طالب.
لو كان الإسلام مجرد دعوة روحية، فلماذا تخشاه قريش إلى هذا الحد؟ المقاطعة كانت سلاحًا سياسيًا بامتياز."
الهجرة إلى الحبشة:
"هاجر المسلمون للحبشة مرتين. ليس فقط هروبًا بدينهم، بل لحماية الرسالة. كانوا كمن يؤسس خطًا دفاعيًا ثانيًا لدعوة يعلمون أنها ستواجه صراعًا طويلًا.
هل تعرف أن بعضهم ظل في الحبشة أكثر من 15 عامًا؟
هذه ليست مجرد هجرة، إنها خطوة استراتيجية لدولة قيد التشكل."
بيعة العقبة:
توقف لثوانٍ، ثم قال:
"ثم جاءت بيعة العقبة، ليست مجرد اتفاق روحي، بل عقد سياسي. ولذلك عُرفت بيعة العقبة الثانية ببيعة الدولة.
الأنصار لم يبايعوا النبي فقط كقائد ديني، بل تعهدوا بحمايته ممن يحمون منه أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وكأنّهم يوقعون على تأسيس أول نواة لدولة إسلامية ."
ظل ينظر إليّ نظرة متفحصة، ثم سألني:
"أنت تعرف كل هذه الأحداث، فلماذا تسأل وكأنك تكتشفها لأول مرة؟"
تنهدت بصدق:
"لأنني لم أرها بهذا الضوء من قبل. كنت أحفظ تفاصيل السيرة كقصص منفصلة، دون أن أدرك الرابط العميق بينها وبين بناء الدولة."
ابتسم الكائن الفضائي ابتسامة دافئة:
"احمد الله أن سخرني لمساعدتك على رؤية ما كان أمام عينيك دائمًا.
لكن تذكر: لا تأخذ كلامي كحقائق مطلقة. فكّر، ناقش، وابحث بنفسك. المعرفة الحقيقية تأتي من السعي الدائم."
تأملت كلماته، وأنا أشعر أن رحلتي لم تكن بين النجوم فقط، بل رحلة أعمق داخل نفسي، لأكتشف المعاني التي لطالما كانت هناك، تنتظر من يزيح عنها غبار العادة.
ترقّبوا في المقال القادم
قد تظن أن الهروب من الاضطهاد هو مجرد بحث عن مأوى، ولكن ماذا لو كانت الرحلة نفسها تحمل مشروعاً أعظم من النجاة؟
في المقال القادم، سنرافق النبي محمد ﷺ وهو يعبر الصحراء، ليس فقط ليترك خلفه مدينة الاضطهاد، بل ليؤسس أولى لبنات دولة ستغيّر وجه التاريخ.
"الهجرة: رحلة لم تكن بحثاً عن النجاة... بل عن الدولة"
قريباً... ستدرك أن الإسلام لم يولد ليُحاصر في المساجد فقط.
Comments
Post a Comment