حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (17): نشأة فكرة فصل الدين عن الدولة في أوروبا: الهروب من سلطان الكنيسة

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة

لم تكن الغرفة الفضائية مختلفة عن المرات السابقة، جدران معدنية باردة، وضوء خافت ينساب من السقف كأنَّه يستنطقني دون أن ينطق. جلستُ مكبل اليدين، أتأمل تلك السلاسل التي لم تكن أكثر قسوة من القيود الفكرية التي طالما حملتها دون أن أشعر.

دخل الكائن الفضائي، بعينيه اللتين تخترقانك كأنهما تنظران إلى أعماقك لا إلى مظهرك. جلس قبالتي، ثم قال بنبرة هادئة تحمل في طياتها تحديًا خفيًا:

"لقد ناقشنا السيادة والعدالة، لكني أراك لا تزال متمسكًا بفكرة فصل الدين عن الدولة. هل تساءلت يومًا: لماذا نشأت هذه الفكرة في أوروبا؟"


صمتُّ للحظات، أحاول أن أستجمع أفكاري.

"أعتقد أن ذلك كان ضروريًا. الكنيسة في العصور الوسطى كانت تمارس الاستبداد، تمنع حرية الفكر، وتعاقب العلماء. فصل الدين عن الدولة كان ثورة على ذلك الظلم."

ابتسم ابتسامة خفيفة، وكأنه كان يتوقع هذا الرد.

"صحيح، الكنيسة في أوروبا مارست سلطة مطلقة، لكنها لم تكن تمثل الدين بحد ذاته، بل كانت مؤسسة بشرية تدعي احتكار الحقيقة باسم الدين. هل ترى الفارق؟"


شعرتُ بارتباك داخلي، لكنه أكمل:

"لنأخذ مثال الثورة الفرنسية، حيث أطاح الناس بالحكم الملكي الذي كان يستند إلى "الحق الإلهي". لكنهم لم يُسقطوا الدين بحد ذاته، بل أسقطوا استغلاله من قبل رجال الدين والسياسيين لتحقيق مصالحهم."

تداخلت الأفكار في رأسي، لكني حاولت الدفاع عن قناعاتي:

"لكن هذا ما يؤكد فكرتي. الدين عندما يتداخل مع السياسة يصبح أداة قمع. لذلك فصلُهما يضمن الحرية."


اقترب قليلًا، ثم قال:

"وهل أدى ذلك حقًا للحرية؟"

"انظر إلى الغرب اليوم. هل حمى فصل الدين عن الدولة الناس من الظلم؟" 

"ألا ترى أن السلطة انتقلت فقط من رجال الدين إلى رجال المال والسياسة؟"

"هل الديمقراطية الغربية حقًا صوت الشعب أم صوت الشركات الكبرى والمصالح الاقتصادية؟"


صمتُّ. كان سؤاله كصفعة على وجه قناعاتي.

"الفكرة ليست في فصل الدين عن الدولة، بل في منع أي سلطة بشرية من احتكار التشريع باسم أي شيء." 

"في الإسلام، السيادة لله ﷻ، لا لحاكم ولا لرجل دين."

"الحاكم خاضع للشريعة مثل أي فرد من الأمة، وعلماء الدين ليسوا كهنوتًا يتحكمون بالعقول، بل مفسرين للشريعة فقط."

توقفتُ عند هذه الفكرة. لم أفكر يومًا في الأمر بهذا الشكل. 

كنت أخلط بين تجربة أوروبا وتجربة الإسلام دون وعي.


قال الكائن بصوت منخفض كأنه يحاول أن يصل إلى أعماقي:

"عندما ترفض فكرة السيادة الإلهية لأنك تخشى الاستبداد، فإنك تستبدلها بسيادة بشرية قد تكون أكثر قسوة، لأنها تستند إلى أهواء بشرية لا إلى معايير ثابتة."

شعرتُ بثقل في صدري، كأن جدران الزنزانة تضيق عليّ. 

هل كنت أهرب من فكرة الاستبداد الديني لأقع في فخ استبداد آخر باسم الحرية؟

تركتني هذه الأسئلة عالقًا بين قناعاتي القديمة وحقائق جديدة بدأت تتسلل إلى عقلي دون إذن.


ترقبوا في المقال القادم: 

"هل يمكن للديمقراطية أن تكون بديلاً حقيقياً لنظام الحكم الإسلامي؟"

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام