في ضيافة المجهول: رحلة فلسفية مع كائن فضائي (17) — المشروع المضحك لريتشارد دوكينز

في ضيافة المجهول

وقف الكائن الفضائي أمامي وهو يحمل جهازًا صغيرًا يبث رموزًا متغيرة على شاشته. بدا عليه الاهتمام وهو يقول:

"أخبرني، هل سمعت عن تجربة ريتشارد دوكينز؟"

ابتسمت وأنا أضع يدي خلف رأسي، فقد كنت أعرف تمامًا ما سيقوله.

"تقصد محاولته لإثبات أن التشفير الجيني يمكن أن ينشأ بالصدفة عبر خوارزمية بسيطة؟"


بالضبط، قال وهو يلوح بجهازه:

"حاول دوكينز مع المبرمج ريتشارد هارديسن أن ينشئ تجربة تعتمد على توليد جملة شهيرة من رواية "هاملت" لشكسبير عبر عمليات عشوائية. كانوا يحاولون إثبات أن التعقيد يمكن أن ينشأ من الفوضى دون الحاجة إلى تصميم ذكي".

قهقهت ساخرًا:

"وهل تعتقد أن هذه التجربة يمكن أن تبرر نشوء الشيفرة الجينية العظيمة التي تحمل في كل خلية أكثر من أربعة مليارات حرف؟"


نظر إلي الكائن الفضائي مستفهمًا، فواصلت:

دعنا نحلل المغالطات واحدة تلو الأخرى:

أولًا: الفرضية المسبقة للتصميم

ألم تلاحظ أنهم برمجوا الحاسوب مسبقًا على أن يصل إلى نتيجة محددة؟ بمعنى أن هناك هدفًا نهائيًا معروفًا مسبقًا، بينما في الطبيعة لا يوجد هدف مسبق يوجه الطفرات العشوائية نحو تكوين جين معين. فالبرنامج لم يترك الحروف تتشكل بحرية بل كان يجبرها على التقدم في الاتجاه المطلوب، مما يعني أن التصميم كان ضمنيًا في التجربة.


ثانيًا: الحاجة إلى آلة ذكية

سؤالي لك، هل يمكن تنفيذ هذه التجربة دون وجود جهاز كمبيوتر؟ دون معالج رقمي ينفذ التعليمات ويقوم بانتقاء الحروف الصحيحة؟ لو كانت العشوائية وحدها كافية، فلماذا احتاج دوكينز إلى جهاز مصمم مسبقًا، ولغة برمجة، وأوامر محددة؟


ثالثًا: غياب العشوائية الحقيقية

لو كانت التجربة محايدة، لكانت تولد كلمات بلا هدف ودون انتقاء ذكي. ولكن التجربة كانت تنتقي الحروف الصحيحة في كل مرة، فهل الطفرات البيولوجية تفعل ذلك؟ أم أن معظمها يؤدي إلى طفرات مدمرة وغير مفيدة؟


رابعًا: حجم التعقيد بين النصوص والجينات

جملة من بضع كلمات لا تقارن بمليارات الحروف المشفرة في الحمض النووي. الجينات تحتوي على تعليمات متراكبة تُقرأ بأكثر من طريقة، وتُترجم إلى بروتينات تعمل بدقة مذهلة. فكيف يمكن لتجربة تلعب بالحروف أن تفسر نشوء تعقيد بهذا الحجم؟


خامسًا: المعلومات ليست مادة

هذه التجربة لم تنتج معلومات جديدة من عدم، بل كانت تعتمد على هدف مخزن في البرنامج. فهل يمكن للصدفة أن تخلق معلومات جديدة دون أن يكون هناك وعي سابق يضعها؟ المعلومات لا يمكن أن تُشتق من الفوضى، بل تتطلب عقلًا مدركًا يضعها.


نظر إلي الكائن الفضائي طويلًا قبل أن يقول:

"يبدو أن مشروع دوكينز ليس إلا لعبة موجهة لإقناع من لا يدققون في التفاصيل".

ابتسمت وأنا أقول:

"وهذا هو جوهر المشكلة، معظم هذه المحاولات هي خدع نفسية أكثر منها براهين علمية. لو كان الأمر بهذه البساطة، فلماذا لم يُنتج أي مختبر في العالم ولو شفرة جينية واحدة نشأت تلقائيًا دون توجيه؟"


قال الكائن الفضائي مستفهمًا:

"إذن، التشفير الجيني دليل على التصميم الذكي؟"

أجبته بثقة:

"ليس مجرد دليل، بل هو أبلغ من أن يُنكر. المعلومات التي تُقرأ في عدة مستويات وتعمل بانسجام لا يمكن أن تكون إلا نتاج عقل عظيم، لا الصدفة العمياء".


تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب بصائر، تأليف د. هيثم طلعت، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام