في ضيافة المجهول: رحلة فلسفية مع كائن فضائي (18) — العين والمطبخ التطوري

في ضيافة المجهول

قال الفضائي وهو يحدق إليَّ بتمعن، وكأنه يحاول سبر أغوار أفكاري: 

"أنتم البشر تبالغون في إدعاء أن أعينكم معجزة. لكن في الطبيعة، نجد أشكالًا مختلفة من الأنظمة البصرية، من العيون البدائية لدى بعض الكائنات، إلى العيون المعقدة كالتي تمتلكها الطيور الجارحة. من الواضح أن هناك تدرجًا تطوريًا، فما الداعي للقول إن العين معجزة خارقة؟ إنها مجرد سلسلة من التطورات التدريجية، لا أكثر ولا أقل."

ابتسمت وأنا أستعد للرد، فهذا الاعتراض هو قلب الفلسفة التطورية، ولكنه في الحقيقة يكشف عن ضعفٍ جوهري في التفكير التطوري، الذي يعتمد على الطرح الفلسفي أكثر من الطرح العلمي المبرهن.


قلتُ له: 

"الإعجاز ليس في العين وحدها، بل في أصغر وحدة منها، في الخلية الحساسة للضوء نفسها. دعنا نسأل الأسئلة الصحيحة: لماذا تحسست هذه الخلايا للضوء؟ كيف تحولت هذه الإشارات الضوئية إلى نبضات كهربائية؟ وكيف يتم تفسير تحول هذه النبضات إلى صورة واعية في الدماغ؟ هذا ليس مجرد وجود أعضاء بدائية وأعضاء أكثر تطورًا، بل هو نظام معلوماتي متكامل يجب أن يعمل دفعة واحدة وإلا فلن يعمل أبدًا."

نظر إليَّ الفضائي متفكرًا، لكنه أصر: 

"لكننا نرى تدرجًا في العيون، من بقع حساسة للضوء، إلى عدسات بدائية، وصولًا إلى العيون البشرية الخارقة. أليس هذا دليلًا على أن الأمور تتطور تدريجيًا؟"


ضحكت وقلتُ له: 

"فلنطبق نفس منطقك على أمرٍ آخر. هل تستطيع الطبيعة أن تُنشئ صينية كنافة طازجة بالجبن؟"

تغيرت ملامحه فجأة وقال متعجبًا: 

"ماذا؟ ما علاقة هذا بالموضوع؟"

تابعتُ قائلاً: 

"سأوضح لك. سيقول لك التطوري: الأمر بسيط جدًا! لدينا القمح في الطبيعة، وسقوط النيازك قد يؤدي إلى طحن القمح ليصبح دقيقًا. ثم يأتي المطر فيجعل الدقيق عجينًا. وعلى حافة أحد الصخور البركانية سيصبح لدينا فرن طبيعي لطهي العجين. أما السكر، فقصب السكر منتشر في الطبيعة، وينابيع المياه الساخنة ستذيبه وتجعله سائلاً شهيًا. والجبن؟ لدينا الأبقار، ونقاط اللبن التي تتساقط من ضرعها بعد رضاعة صغارها كفيلة بأن تصنع لنا الجبن. هكذا ببساطة  !"


نظر إليَّ الفضائي وقد بدأ يستوعب الفكرة، لكنه لم يتكلم. فأضفت: 

"هل هذا كلام منطقي؟ هل يمكنك أن تتخيل أن هذه العوامل الطبيعية ستؤدي تلقائيًا إلى إنتاج صينية كنافة طازجة؟ بالطبع لا! لأن المسألة ليست مجرد مواد خام، بل هي عملية معقدة تتطلب معرفة، وتصميمًا، وتوجيهًا متقنًا."

أخذ الفضائي يفكر للحظات، ثم قال: 

"إذًا أنت تقول إن وجود عيون بدائية لا يعني بالضرورة أن العين تطورت تلقائيًا، لأن وجود المواد الخام لا يعني أنها ستتحول إلى نظام معقد تلقائيًا؟"


ابتسمتُ وقلت: 

"تمامًا! المشكلة الكبرى في الطرح التطوري هي أنه يُفكك الأنظمة الحيوية المعقدة أمامك، ثم يعيد تجميعها كما لو كنا نلعب بلعبة "بازل" (Puzzle). لكن الحقيقة أن هذه الأنظمة ليست مجرد أجزاء متراكبة، بل هي أنظمة معلوماتية دقيقة، حيث يمكن لخلل في حرف واحد داخل الشريط الجيني أن يفسد النظام بأكمله."


أشرتُ إلى عينه وقلت: 

"خذ عينك على سبيل المثال، هل تعلم أن شبكية العين تحتوي على أكثر من 150 مليون خلية مستقبلة للضوء؟ هل تعلم أن هذه الخلايا لا تكتفي فقط برصد الضوء، بل ترسل الإشارات الكهربائية إلى الدماغ عبر العصب البصري بطريقة مدهشة؟ كل هذا يحدث في جزء من الثانية! والأعجب من ذلك أن الدماغ نفسه يعالج هذه الإشارات ليكوِّن لك صورة ثلاثية الأبعاد ملونة بعمق ووضوح مذهل. كيف لنظام كهذا أن يظهر بالصدفة؟"


نظر إليَّ الفضائي وكأنه بدأ يرى الأمر من زاوية مختلفة، لكنه لم يرد، بل اكتفى بالتحديق في الأفق، غارقًا في دوامة من التفكير العميق .

 


تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب بصائر، تأليف د. هيثم طلعت، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام