في ضيافة المجهول: رحلة فلسفية مع كائن فضائي (19) — الانتخاب الطبيعي تحت المجهر

في ضيافة المجهول

كان المساء هادئًا، والسماء صافية تتلألأ فيها النجوم كحبات من اللؤلؤ مبعثرة على بساط أسود مخملي. جلستُ بجوار الكائن الفضائي في حديقة منزله الغريبة، حيث تضيء بعض النباتات المتوهجة بلون أزرق مخضر، ترسل ظلالًا باهتة على وجهه الغريب ذي العيون الواسعة المتقدة فضولًا.

نظر إليَّ وهو يعبث بيده في الرمال الناعمة وقال:

"لقد أخبرتني كثيرًا عن انتقاداتك لنظرية التطور، لكن ماذا عن الانتخاب الطبيعي؟ أليس هو التفسير العلمي لظهور الأنواع الجديدة؟ أليس هو ما يجعل الحياة تتطور باستمرار؟"

ابتسمتُ، ثم استندتُ إلى جذع شجرة ذات أوراق متشابكة كالأيدي المتعانقة وقلتُ بحماس:

"سؤال جيد جدًا. لكن هل الانتخاب الطبيعي نظرية علمية فعلًا أم مجرد تخمين فلسفي؟"


قطّبَ حاجبيه متعجبًا وقال:

"ماذا تقصد؟ إنه جزء من البيولوجيا الحديثة!"

ضحكتُ وقلت:

"هذا ما يريدون منك أن تعتقده، لكن انتظر قليلًا. هل سمعت عن كارل بوبر، واحد من أعظم فلاسفة العلم في القرن العشرين؟"

أومأ برأسه بالإيجاب.


  اعتدلتُ في مقعدي وأكملت:

"حسنًا، في سبعينيات القرن الماضي أعلن بوبر أن نظرية التطور ليست نظرية علمية، بل مجرد قفزة إيمانية، ميتافيزيقا بحتة!"

قفز من مقعده كمن لدغته حيّة:

" مستحيل! وكيف كان رد العلماء على ذلك؟"

أجبته بمنتهى الهدوء: 

"ثاروا بشدة، وحاولوا إثبات العكس، لكنه قبل وفاته بعامين فقط قال إنه ما زال غير مقتنع! وفي كتابه الأخيرEvolutionary Epistemology  أورد اعترافات كبار علماء التطور عبر التاريخ، والتي تثبت أن الانتخاب الطبيعي مجرد Tautology، أي تكرار كلام بلا مضمون حقيقي."


لم يبدُ عليه الفهم ولذلك توقعتُ سؤاله:

"ما الذي تعنيه؟  "

 حاولت الاسترخاء في مقعدي وبابتسامة واثقة قلتُ:

"انظر إلى هذا المثال البسيط: عندما تسأل عالمًا تطوريًا لماذا بقي كائن معين حيًا؟ سيجيبك: لأنه كان الأكثر تكيّفًا مع بيئته. وعندما تسأله: وكيف عرفت أنه الأكثر تكيّفًا؟ سيجيبك: لأنه بقي حيًا!

هل ترى الحلقة المفرغة؟ الانتخاب الطبيعي لا يفسر شيئًا، بل يقرر ما هو واضح بالفعل دون تقديم أي دليل حقيقي."


نظر إليَّ بتمعن، وكأنّ الفكرة بدأت تترسخ في ذهنه، لكنّه لم يبدُ مقتنعًا بعد:

"لكن أليس هناك تجارب تُؤكّد صحة الانتخاب الطبيعي؟"

ابتسمتُ وقلتُ:

"دعني أخبرك بما حدث في معامل جامعة ميتشيغان. هناك، قرر العلماء اختبار التطور عبر محاكاة مليون سنة من التطور على البكتيريا، عن طريق تعريضها لظروف متغيرة وتحفيزها. هل تخمن ماذا كانت النتيجة؟"

أجاب بحماس شديد:

"ماذا؟! لابد أن شيئًا مدهشًا حدث!"


أجبتهُ بلا انفعال هذه المرة:

"ليس تمامًا... تريليونات البكتيريا وُلدت وماتت، ولكن لم يظهر بروتين جديد واحد، فضلاً عن أن تتحول إلى نوع آخر! التطور لم يعمل، والانتخاب الطبيعي فشل في إحداث أي تغيير حقيقي."

كان الكائن الفضائي صامتًا، ثم قال بصوت منخفض:

"هذا غريب... ألا يوجد علماء من مؤيدي التطور يعترفون بهذه المشكلة؟"

تحمست أنا هذه المرة وأنا أجيبه بثقة متناهية:

"بالطبع! حتى رونالد فيشر مؤسس الداروينية الحديثة، وعالم الوراثة هالدين، وعالم الحفريات جورج سيمبسون، كلهم اعترفوا أن الانتخاب الطبيعي ليس مفهومًا علميًا منضبطًا! وحتى داروين نفسه كان يشعر أن هناك مشكلة في نظريته، وقد أشار إلى ذلك في رسائله المتبادلة مع عالم النباتات جوزيف هوكر عام 1862."


نظر إليَّ الكائن الفضائي طويلاً، ثم تمتم:

"لم أتوقع أن يكون الأمر بهذا الضعف... إذن، إذا كان الانتخاب الطبيعي ليس علميًا، فما هو التفسير الحقيقي لظهور الحياة؟"

ابتسمت، ونظرت إلى السماء حيث كانت النجوم تتلألأ كأنها تنصت لحوارنا العميق، ثم قلت بهدوء:

"هذا ما سنناقشه في لقائاتنا القادمة..."


تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب بصائر، تأليف د. هيثم طلعت، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام