حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (22): تأملاتي الأخيرة في الزنزانة الفضائية... من انتصر حقًا؟
كانت الزنزانة مظلمة كما اعتدت، لكن هذه المرة لم يكن الكائن الفضائي حاضرًا. لا أسئلته الساخرة، ولا تحديق عينيه الغامضتين. فقط أنا وأفكاري، أو ربما أنا وأشباح الحجج التي زرعها في رأسي، تنمو بصمت مثل بذور رفضت الموت. جلست أتأمل في كل ما دار بيني وبين الكائن الغريب الذي قلب أفكاري رأساً على عقب.
موقف
قريش من كلمة التوحيد
لم
يكن رفض قريش للنبي ﷺ بسبب الصلاة أو الصيام أو الأخلاق الحسنة. لقد أدركوا أن
"لا إله إلا الله" تعني أكثر من مجرد إعلان روحي؛ إنها إعلان تحرر من
سلطتهم، وانقلاب على نظامهم السياسي والاقتصادي القائم على عبادة الأصنام والتمييز
الطبقي. كانوا يعلمون أن هذه الكلمة تهدد امتيازاتهم، لأنها تجعل السيادة لله
وحده، لا لقبائلهم ولا لأشرافهم.
هجرة
المسلمين إلى الحبشة
حين
اشتد الاضطهاد في مكة، لم يكن أمام المسلمين سوى البحث عن ملاذ آمن. لكنهم لم
يختاروا أي مكان عشوائي. ذهبوا إلى الحبشة لأن فيها ملكاً "لا يُظلم عنده
أحد." دولة تحكم بالعدل كانت الملجأ، لا مجرد بقعة جغرافية. العدالة كانت
معيار الاختيار، مما يثبت أن الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة، بل يبحث عن نظام
يحقق كرامة الإنسان وحقوقه.
هجرة
النبي ﷺ إلى المدينة رغم واقعها المعقد
لم
تكن المدينة خالية من النزاعات القبلية والمصالح المتضاربة. لكنها كانت المكان
الأنسب لتأسيس دولة تقوم على مبادئ الإسلام. لم يكن الهدف فقط الهروب من اضطهاد
مكة، بل بناء نظام سياسي جديد يُظهر كيف يمكن للعقيدة أن تشكل أساساً للحكم العادل.
وثيقة
المدينة: أول دستور حقيقي
حين
استقر النبي ﷺ في المدينة، لم يفرض سيطرته بالقوة على اليهود والمشركين. بدلاً من
ذلك، كتب وثيقة المدينة التي نظّمت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وضمنّت
حقوق الجميع مع الالتزام بمبدأ أن السيادة لله وحده. كانت هذه الوثيقة أول مثال
على أن الإسلام قادر على إدارة التنوع الديني والسياسي بعدالة.
صلح
الحديبية: الاعتراف بالدولة الإسلامية
ظن
البعض أن شروط صلح الحديبية كانت مجحفة. لكن في الحقيقة، كان هذا الاتفاق نقطة
تحول. فقد اعترفت قريش ضمنياً بوجود كيان سياسي مستقل للمسلمين. هذا الاعتراف سمح
للنبي ﷺ بإرسال رسائل إلى ملوك العالم، يُعلن فيها دعوته ليس كقائد ديني فقط، بل
كزعيم لدولة ذات سيادة.
جلستُ أتأمل في هذه الأحداث، أدركت أن الإسلام لم يكن يوماً مجرد طقوس تُمارَس في زوايا المساجد. كان دائماً مشروع حياة، نظاماً يحكم ويُقيم العدل، ويمنح الإنسان كرامته. لم يكن الكائن الفضائي يحتاج لإقناعي أكثر من ذلك. كانت الحقائق واضحة، لكنني كنت أقاومها لأنني أخشى الاعتراف بأنني كنت مخطئاً.
تذكرت حجته "لمن السيادة؟" سؤال بسيط، لكنه أثقل من جدران السجن نفسها. اعتدت أن أردد بثقة: "للبشر حق التشريع"، لكن الآن تتردد أصداء الآية في رأسي"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ .كيف تجاهلت هذه الحقيقة البسيطة طوال حياتي؟ هل كان خوفي من فكرة التخلي عن وهم السيطرة؟ أم كانت راحتي في الاعتقاد بأن الحرية تعني القدرة على سن القوانين حسب أهوائنا؟
ثم جاء حديثه عن فشل القوانين البشرية. الديمقراطية التي رفعتها كراية، كيف فسرت قدرتها على إنتاج طغاة منتخبين؟ كيف سمحت لنفسي بتجاهل التلاعب السياسي، المال الذي يشتري أصواتًا، والإعلام الذي يصنع "حقيقة" مزيفة؟ هل نحن أحرار حقًا إذا كانت عقولنا مسجونة خلف ستائر الدعاية؟
تذكرت حين سألني"هل يمكن فصل الدين عن الحياة؟". ضحكت آنذاك ساخرًا من سذاجته، لكن من الساذج الآن؟ لا أفصل ديني عن طريقة أكلي، حديثي، وعلاقاتي، فكيف أقنع نفسي بأن السياسة وحدها منطقة محظورة على القيم الإلهية؟ هل هذا حقًا منطق، أم مجرد راحة فكرية زائفة؟
لم يكن الكائن بحاجة لإقناعي عبر استعراض تاريخ الخلافة الإسلامية، فقد فعلت الذاكرة ذلك عني. قصص عمر بن الخطاب، عدله الذي جعل أقوى الرجال يرتجفون أمامه، ليس لأنه كان طاغية، بل لأنه كان يخشى الله أكثر مما يخشى الناس. أي نظام بشري حديث يمكنه تحقيق هذا التوازن بين السلطة والخوف من الظلم؟
ثم جاء الحديث عن العولمة، وكيف فرض الغرب قيمه على العالم. كنت أظن أن هذه القيم عالمية، لكن هل هي كذلك حقًا؟ الحرية التي تتبجح بها الديمقراطيات الغربية تُسحق عند أول تعارض مع مصالحهم. حقوق الإنسان؟ فقط إن لم تكن عائقًا أمام النفط أو السلطة.
لم يكن النقاش عن الماضي فقط، بل عن حاضري أنا. هل أؤمن حقًا أن العدالة نسبية؟ أن القوانين تتغير كما يتغير المزاج العام؟ إذا كان القتل ظلمًا اليوم، فلماذا يصبح مقبولًا غدًا بحجة الدفاع عن "الديمقراطية" أو "الأمن القومي"؟
والآن، بعد كل هذا السجال، أجلس هنا في هذا السجن الفضائي، حرًا أكثر مما كنت يومًا وأنا طليق على الأرض.
لم يعد السؤال: من كان على حق، أنا أم الكائن؟ بل:
هل كنت صادقًا مع نفسي طوال الوقت؟
أدعوك، أيها القارئ، لتكون الحكم.
اكتب تعليقك بكلمة واحدة:
"البشري" إذا كنت تعتقد أنني انتصرت في هذا الحوار،
أو "الفضائي" إذا شعرت أن حججه كانت أقوى.
من فاز في هذا النقاش؟ أنت من يقرر.
Comments
Post a Comment