حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (21) (اللقاء قبل الأخير): لماذا لم يساوم الإسلام على الحكم؟

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة

كان اللقاء الأخير بيني وبين الكائن الفضائي يقترب، لكنه لم يكن ليغادر دون أن يطرح سؤاله الأخير، السؤال الذي بدا وكأنه خلاصة كل نقاشاتنا السابقة.

"إذن، لماذا لم يترك نبيكم السياسة لأهلها؟ لماذا لم يكتفِ بدوره الروحي، ويترك الحكم لعبد الله بن أُبي بن سلول؟" قال الكائن وهو يحدق فيَّ بعينيه الباردتين.

أعدت صياغة السؤال لأعطي نفسي فرصة التفكير:

"أتعني لماذا لم يساوم الإسلام على الحكم كما فعلت أديان أخرى؟"

أجاب الكائن بابتسامة هادئة:

"أجل. أنا فقط أتسائل لماذا لم يكن النبي أكثر مرونة؟ ألم يكن بإمكانه كسب مزيد من الأتباع دون إثارة حفيظة القوى السياسية في المدينة؟"


لم أجد ما أرد به، فتابع قائلا:

"لو كان الهدف مجرد نشر تعاليم أخلاقية، لكان ذلك ممكنًا. لكن الإسلام ليس موعظة دينية ولا نصائح أخلاقية فحسب، إنه منهج حياة متكامل. لو ترك النبي ﷺ السياسة لأهلها كما تقول، فكيف كان سيطبق العدالة؟ كيف كان سيمنع الظلم والفساد؟ كيف كان سينظم العلاقات بين الأفراد، ويدير شؤون الدولة، ويحمي الحقوق؟"

رددت عليه بتردد هذه المرة:

"لكن البشر قادرون على وضع قوانين تنظم حياتهم، لماذا نحتاج إلى قوانين دينية؟"


أجابني بحدّة هذه المرة ولسان حاله يقول "استخدم عقلك ولو مرة يا هذا":

"وهل ترى أن القوانين البشرية معصومة؟ دعني أذكّرك بشيء: كل قانون بشري هو انعكاس لرغبات صانعيه، تحكمه المصالح والأهواء. حتى أعظم القوانين الوضعية، لم تكن يومًا محايدة بالكامل. هناك دائمًا تحيز طبقي، اقتصادي، أو حتى عرقي. أما القانون الإلهي، فهو فوق هذه الاعتبارات، لأنه صادر عن خالق البشر، العالِم بما يصلحهم."

ثم أضاف:

"القانون هو تعبير عن رغبات الأقوياء."


أجبت بعناد لم أجد ما يبرره:

"ولكن، ألا يمكن أن تتطور القوانين مع الزمن؟"

ابتسم ابتسامة ساخرة وكأنه يجيب طفلا صغيرا:

"بالتأكيد، والإسلام ليس ضد الاجتهاد في المسائل الدنيوية، لكنه وضع أصولًا ثابتة تحكم أي تطور. المشكلة ليست في التكيف مع الزمن، بل في فقدان المرجعية المطلقة. حين يعتمد البشر على عقولهم وحدها، يصبح الحق نسبيًا، يتغير بتغير المصالح والضغوط. اليوم يجرّمون أمرًا، وغدًا يصبح حقًا مشروعًا، ليس بناءً على معايير ثابتة، بل وفقًا لموازين القوة والمصالح."


تسائلت هذه المرة بنبرة صادقة:

"وهذا بالضبط ما فعله النبي ﷺ؟ أصرّ على الحكم حتى لا تُفرَّغ رسالته من جوهرها؟"

أجابني بجدية وقد تلاشت الابتسامة من على وجهه:

"تمامًا. الإسلام لم يكن مجرد طقوس تُمارس في الزوايا المظلمة من الحياة، بل رسالة إصلاحية تحكم جميع مناحي الوجود. لو قَبِل النبي ﷺ بحكم عبد الله بن أُبي بن سلول، لكان قد وافق ضمنيًا على استمرار الظلم تحت غطاء ديني زائف. لذلك، كان لا بد أن يكون الإسلام هو الحاكم، وليس مجرد ضيف في مملكة وضعية."


ساد صمت قصير، ثم قلتُ بصوت هادئ: 

"أفهم الآن. لم يكن رفض النبي ﷺ لحكم عبد الله بن أُبي بن سلول مجرد عناد، بل كان ضرورة منطقية لبقاء رسالته كما هي. لكن هل كان الأمر يستحق كل هذه التضحيات؟"

تنهد الكائن بصوت مسموع وكأن جعبته قد فرغت:

"إن كنت تريد إجابة حقيقية، فانظر إلى العالم اليوم. أي البلاد أكثر استقرارًا؟ التي حكمتها قوانين البشر المتغيرة، أم التي حكمتها عدالة لا تتبدل؟ الإسلام لم يساوم على الحكم لأنه لم يكن مجرد فكرة، بل واقعًا يجب أن يُعاش ليُفهم."


للمرة الثانية لا أجد ما أقول فبقيت صامتا أنتظر المزيد من الحجج.

نظر إليّ الكائن طويلًا، ثم قال: 

"أظن أنني سأتركك مع هذا السؤال الأخير. لقد قدمتُ حُججي، والآن القرار لك."

اختفى الكائن في الظلام، وتركني وحدي مع أفكاري، ومع السؤال الأكبر الذي لطالما تهرب منه الكثيرون: 

هل يمكن حقًا فصل الإسلام عن الحكم؟

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام