حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (4): السفر عبر الزمن، الهرمنيوطيقا، وفلسطين… ماذا يريد هذا الكائن مني؟
لماذا تؤمن بإمكانية السفر عبر الزمن وكأنها من المُسلّمات في كوكبك؟ هل قمتَ بالسفر عبر الزمن من قبل؟
حاولت استجماع شتات أفكاري، ولكن هيهات… أسئلة هذا الكائن تزلزلني، تجعلني أفقد الثقة في كل شيء، حتى في نفسي. لم يكن حوارًا عاديًا، ولم يكن خصمًا يسهل التغلب عليه. كنت أشعر وكأنني أمام مرآة تعكس كل التناقضات التي كنت أهرب منها، كل الأسئلة التي لطالما تجنبت مواجهتها.
لا تتركه يسلبك نعمة العقل والتفكير المنظم! أليس هذا ما كان يتحدث عنه منذ لحظات؟ العقل.
أغمضت عيني للحظة، محاولًا تهدئة أنفاسي… شهيق… زفير… لا مجال للتراجع الآن. فتحت عينيّ وحدّقت فيه بثبات، ثم نطقت بجملة لم أكن أعلم مدى تأثيرها عليه حتى لحظة نطقها:
"نعم. أؤمن بإمكانية السفر عبر الزمن، ولو نظريًّا."
ارتد الكائن إلى الوراء، وكأن صاعقة أصابته، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه. لاحظتُ كيف حاول إخفاء دهشته خلف قناع من السخرية المصطنعة وهو يقول:
"من أين لك بكل هذه الثقة، أيها البشري؟ هل لديكم من التكنولوجيا ما يجعلك تُقدم على هذا القول؟"
ابتسمت، رغم أنني كنت أشعر بتسارع دقات قلبي. لم تكن ثقتي نابعة من علم البشر، بل من شيء أعمق، من يقيني بديني. قلت له بهدوء:
"لا، ليست التكنولوجيا، ولا نظريات العلماء، ولكن من فهمي لديننا الحنيف."
اتسعت عيناه قليلًا، لأول مرة منذ بداية هذا الحوار، قبل أن يرفع حاجبه في استهزاء واضح:
"هل تتكلم عن نفس الدين الذي قلت البارحة إنه داخل القلب وبين أروقة المساجد؟ أم هناك دين آخر تعتنقه وفيه نظريات علمية كالسفر عبر الزمن؟"
رغم سخريته، لم أشعر بأي استفزاز. على العكس، كنت سعيدًا لأنني وجدت شيئًا في الإسلام يؤيد فكرتي، ولو من زاوية مختلفة. استجمعت أفكاري، ثم سألته:
"هل سمعت عن ليلة الإسراء والمعراج؟"
"تقصد تلك الليلة التي تقولون إن نبي الإسلام محمد قد سافر بها من مكة إلى القدس؟"
"نعم. ليلة الإسراء والمعراج. الإسراء معناه السير ليلًا، والرسول ﷺ قد أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ثم عُرج به إلى السماوات، حيث رأى من آيات ربه الكبرى. رأى بعض الرسل هناك وكَلّمهُم، رأى سيدنا جبريل على هيئته الحقيقية، ورأى مشاهد من يوم القيامة "والتي لم تحدث بعد". أليس هذا دليلًا على إمكانية السفر عبر الزمن ولو بشكل غير مألوف لدينا؟"
رأيته يضيق عينيه وكأنه يقلب الفكرة في عقله، فتابعتُ:
"السفر إلى المستقبل ممكن عقليًا، وقد قال بذلك أحد علماء كوكبنا، أينشتاين، في نظريته النسبية. أما السفر إلى الماضي، فهو محل جدل. رأيي الشخصي أنه غير ممكن، لأنه هناك الكثير من التناقضات المنطقية مثل ما يُعرف في الفلسفة باسم "مفارقة الجد". أعتقد أن الماضي قد نتمكن من رؤيته يومًا ما بأساليب علمية متطورة، لكن تغييره ضربٌ من الخيال ".
للحظة، شعرت أنني كسرت بعضًا من غروره، لكنه لم يستسلم. بل نظر إليّ نظرة كالصقر الذي وجد فريسته وقال:
"أليست مسألة الإسراء والمعراج هذه مختلفًا فيها بين علمائكم؟"
رددتُ بحدة لم أعهدها في نفسي:
"وهل أصبحت شيخًا وعالمًا الآن، أيها الفضائي؟! ما أدراك باختلافاتنا في ديننا؟"
لدهشتي، رأيته يبتسم، ولكن هذه المرة لم تكن ابتسامته ساخرة. بل كانت هادئة، مطمئنة، وكأنه انتظر مني هذا الانفعال. قال بصوت خالٍ من الاستفزاز:
"كنت أتصور أننا هنا لمناقشة كل الأمور التي تزعم أنها مسلّمات تؤمن بها إيمانًا لا يتزحزح. كما أنني رأيت الكثير من التناقضات في أفكارك، فاعذرني على التشكيك في كل ما تقوله. أليس هدفنا إظهار الحقيقة؟"
شعرتُ بتيار كهربائي يسري في جسدي. كانت كلماته صحيحة، رغم أنني لم أرد الاعتراف بذلك. حاولت استعادة هدوئي، فقلت بصوت منخفض:
"كلامك صحيح، لكن لا يجب التشكيك في صريح القرآن الكريم وما أجمع عليه سلف هذه الأمة وعلماؤها، وإلا ضاع ديننا على أيدينا."
لاحظت أنه استمع بانتباه، فتابعت:
"نحن كمسلمين نؤمن أن القرآن الكريم كلام الله، وقد تعهّد بحفظه، فقال": إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ". أما ما يفعله الظلاميون الذين يزعمون أنهم "تنويريون"، فهم يحاولون إعادة تفسير النصوص المقدسة بطريقة تفقدها معناها الأصلي. إنهم يحاولون تجميد النص، بعزل المفسر عنه، وفتح الباب أمام التأويل المطلق، بحيث يصبح لكل شخص الحق في تأويل النصوص وفق رؤيته الخاصة، دون اعتبار للثوابت الشرعية. هذا ما يُسمى بـ الهرمنيوطيقا."
التقطتُ أنفاسي بعد هذه المرافعة، لكن قبل أن أواصل، قاطعني الفضائي بابتسامة ساخرة وهو يقول:
"الهر… الهرمن…
ظل الكائن يحاول نطق الكلمة، ولا ألومه على ذلك فأنا على ثقة أن معظمكم الآن يحاول نطقها😛، إلى أن قاطعته قائلا: لا عليك. لنترك هذا النقاش لوقت آخر. أما الآن، فأجبني بصراحة: هل لديكم تقنيات تسمح بالسفر عبر الزمن أم لا؟"
لم يُجبني مباشرة، بل ظل يحدّق فيّ بصمت. كنت أعلم أنه يخطط لشيء ما، لكنني لم أعرف ما هو حتى قال بلهجة بدت وكأنها تهدف إلى زلزلة يقيني من جديد:
"كيف تقول إن كتابكم المقدس يذكر المسجد الأقصى ويعتبره المسلمون قبلتهم الأولى، ثم تتركون أهل فلسطين يعانون تحت سمعكم وبصركم، بل وبالتواطؤ مع بعض الأنظمة السياسية التي تحكم بلادكم؟ 😡"
كانت كلماته كسكين غرس في خاصرتي، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أكمل بلهجة أكثر قسوة:
"أليس هذا أحد نتاجات فصل دينكم عن سياستكم؟ أليست الوطنية والقومية التي تنادون بها في عصركم الحديث هي ما أدت بكم إلى هذا الوضع المخزي أمام العالم أجمع؟ أليست الحدود التي رسمها لكم عدوكم تشبه هذه الزنزانة التي أنت فيها الآن؟ لا تستطيع الخروج منها إلا بإذني، وكذلك بلادكم لا تستطيعون مغادرتها إلا بأخذ الإذن والمسمى عندكم بـ "التأشيرة"؟ 😡"
لم أستطع الرد… كان كل ما يقوله صحيحًا، أو على الأقل، كان مؤلمًا بدرجة تجعلني لا أجرؤ على إنكاره.
حاولتُ أن أتكلم، لكن الكلمات خانتني. ظللت صامتًا، أسمعه يسألني السؤال الأخير الذي ما زال صداه يتردد في رأسي حتى الآن:
"فصل الدين عن الدولة له آثار وتبعات… فهل حسبتم حسابها؟ وهل أنتم مستعدون لدفع ثمنها الباهظ؟"
ترقبوا في المقال القادم:
كيف تحولت الهرمنيوطيقا من أداة لفهم النصوص إلى سلاح يُستخدم لإعادة تشكيل الدين؟ وهل نحن أمام خطر يهدد ثوابت الإسلام باسم التأويل والتجديد؟
Comments
Post a Comment