حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (5): بين الشك واليقين.. حين يعبث الفضائي بعقلي
حدّقتُ في ملامحه الباردة، ذلك الفضائي الذي لا تفارق وجهه نظرة الاستفزاز وكأنه يستمتع برؤيتي أتعثر في الإجابة. كان السؤال الأخير الذي طرحه يرنّ في أذني كناقوس خطر:
"فصل الدين عن الدولة له آثار وتبعات… فهل حسبتم حسابها؟ وهل أنتم مستعدون لدفع ثمنها الباهظ؟"
لم أجد جوابًا… لم يكن لدي أي ردٍّ يليق بسؤاله، ليس لأنني لا أؤمن بإجابتي، ولكن لأنني كنت أعرف، في أعماق نفسي، أنّ الحقيقة التي طرحها كانت أقسى مما أردت الاعتراف به.
كانت كلماته كالرصاص تخترق حصوني الدفاعية واحدًا تلو الآخر. كيف أجادله في شيء أنا نفسي أراه كل يوم بأمّ عيني؟
كيف أنكر
التشرذم، والحدود المصطنعة التي تفصل بين إخوة العقيدة، والتي أصبحت كالسجون
الكبيرة لا يسمح لنا بمغادرتها إلا بتأشيرة؟ كيف أدافع عن صمتنا تجاه فلسطين ونحن
نرى أهلها يُذبحون، نرى المسجد الأقصى يُدنّس، ونكتفي بالاستنكار في مؤتمرات لا
يسمعها أحد؟
التفتُ إليه محاولًا استجماع شتات أفكاري، لكن هيهات… أسئلته كانت تزلزلني، تهدم كل يقين كنت أتمسّك به. كنت أظن أنني قادر على مجاراته، على الرد عليه بالحجة والبرهان، ولكن ها أنا ذا… صامت، مُحاصر، عاجز حتى عن تبرير الواقع الذي نحياه.
رآني أرتبك، فابتسم ابتسامة خبيثة، وكأنه صيّاد يرى فريسته قد وقعت في الشرك. اقترب ببطء وقال بصوت هادئ، ولكن كلماته كانت أشبه بصاعقة:
"ألستَ أنت من قال لي إن دينكم يحكم كل مناحي الحياة؟ فلماذا إذًا جعلتموه حبيس المساجد؟ ولماذا تركتم عدوّكم يحدّد لكم أين يبدأ دينكم وأين ينتهي؟"
كانت كلماته الأخيرة كالخنجر ينغرس في قلبي فيدميه. تذكرت معها مشاهد المسلمين في غزة و التي تعبّر عن واقعنا الأليم فلم أستطع تمالك نفسي وانهرت على أرضية الغرفة.
لشدة دهشتي ارتسمت على ملامح وجه الكائن نظرة حانية ولكنها لم تلبث أن تلاشت كما ظهرت. مدّ يده إليّ ليساعدني على الوقوف وطلب لي كوب ماء ثم جلس بجواري على السرير وأشار إلي الشاشة الهولوجرامية فانسابت موسيقى هادئة تخيل هو أنها ستساعدني على الاسترخاء والهدوء ولمّا وجدني لا أنتبه لها قرر أن يجرّب شيئا آخر وفجأة سمعت صوت القرآن الكريم يُتلى بصوت أحد القرّاء المصريين المعروفين فعَلَت شفتيّ ابتسامة جعلت الكائن يبتسم هو الآخر.
"لم لا نتحدث عن شيء آخر بدلا من السياسة؟" سألني بنبرة صادقة فأجبته: لماذا؟ هل اقتنعت بوجهة نظري في فصل الدين عن الدولة؟
هزّ رأسه، وكأنه لم يفهم دعابتي: "لا ولكن حالتك النفسية والعقلية لا تسمح الآن بالاستمرار في هذه المناقشة".
لم أستغرب جوابه فمن الواضح أن هؤلاء الفضائيون عمليون للغاية. سألته: وماذا تريد أن نتحدث بشأنه إذا؟
منذ قليل ذكرت شيئا لم أفهم معناه فهلا وضّحته لي؟
قلت له أتقصد الهرمنيوطيقا؟
فأجاب: نعم. أخبرني بما تعرفه عن هذه الهرمنيوطيقا وما الذي يجعلك تشعر أنها خطر عليكم كمسلمين؟
اعتدلت في جلستي وكأنني على وشك إلقاء محاضرة.
ينقسم العالم اليوم إلى ثلاثة أقسام متمايزة في تعاملها مع الدين والمعتقدات:
الجهة الشرقية: تعاني من الإلحاد الروحي، الذي يمثل شكلاً من أشكال الباطنية الحديثة، ويشمل ممارسات مثل اليوجا، العلاج بالطاقة، والأحجار الكريمة، وكلها منبثقة من ديانات مثل البوذية والهندوسية وغيرها.
الجهة الغربية: تواجه الإلحاد المادي، الذي يُعتبر نموذجًا للإلحاد المستند إلى العقلانية المفرطة والرفض المطلق للدين.
قلب العالم الإسلامي: ما يزال صامدًا في وجه هذه التيارات بسبب الثوابت الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية بفهم سلف الأمة. وتبرز أهمية السنة النبوية الشريفة كحصن متين يعصم المسلمين من الفهم الخاطئ لكتاب الله عز وجل، بخلاف ما حدث لأصحاب الديانات الأخرى نتيجة تحريفهم لكتبهم المقدسة.
هذا الصمود يجعل العالم الإسلامي هدفًا دائمًا لمحاولات التحريف والتفكيك. ومن بين أخطر هذه المحاولات، والتي ستكون ملف العقد القادم، استيراد "الهرمنيوطيقا"(Hermeneutics) كأداة لإزالة هذا المانع، وتحويل النصوص الشرعية إلى رموز قابلة للتأويل بما يخدم أجندات فكرية تهدم العقيدة الإسلامية من الداخل .
نظر إليَّ الكائن، بدا وكأنه لم يفهم تمامًا. لكني كنت مرهقًا، فقلت: "لنؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر."
ظهر عليه الانزعاج، لكنه وافق على مضض، وغادر الغرفة بعد أن أطفأ أنوارها في طريقه للخروج.
بقيت وحدي في الظلام. أحتاج إلى وقت لاستجماع أفكاري.
ما الذي يريده هذا الكائن مني؟ ولماذا يهتم بأفكاري السياسية والدينية؟ هل لديهم آلة زمن فعلًا؟ هل سيتركني أسافر إلى بداية تأسيس الدولة الإسلامية، أم أن كل هذا مجرد تحقيق بطرق غير تقليدية؟
أشعر أن رأسي سينفجر. سأحاول النوم الآن، وعندما أستعيد عافيتي... ستكون لنا جولة أخرى.
Comments
Post a Comment