رمضان والقرآن (5): محاور سورة البقرة (الجزء الثالث)
المحور الثاني: مقومات استحقاق أمة الإسلام للقوامة والخلافة
بعد أن تناولت السورة الكريمة في المحور الأول عزل بني إسرائيل عن منصب الخلافة الإلهية بسبب انحرافهم عن منهج الله، انتقل الحديث إلى أمة الإسلام، الأمة الجديدة المؤهلة لحمل الأمانة العظمى في الأرض. وقد جاء هذا المحور بأسلوب متدرج، يبدأ بالتمهيد الاعتقادي، ثم التأصيل لمنهج التلقي عن الله وحده، ثم تفصيل الأحكام العملية التي تجعل الأمة قادرة على النهوض بمسؤولياتها.
التمهيد العقدي والتأصيل لمنهج التلقي
بدأ المحور الثاني بترسيخ العقيدة الصحيحة التي تربط المسلمين بربهم، وذلك من خلال التأكيد على أن التشريع حق خالص لله، فهو وحده الذي يُحلّل ويُحرّم، وقد جاء ذلك مقرونًا بذكر بعض الانحرافات التي وقع فيها السابقون ليحذر المسلمون من الوقوع فيها. ثم جاءت آية البر العظيمة التي تعدّ خلاصةً لمنهج الاستقامة، حيث رسمت معالم الطريق الصحيح بعيدًا عن الأوهام والطقوس الشكلية التي وقع فيها أهل الأديان السابقة:
"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ "
وبعد هذا التمهيد، شرعت السورة في عرض مقومات استحقاق أمة الإسلام للخلافة من خلال ستة مقاطع رئيسية:
.1 تفصيل بعض أمور البر (الآيات 178-203)
بعد أن بيّنت آية البر الأسس العامة للإيمان والعمل الصالح، جاءت الأحكام العملية لتطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع. فتحدثت الآيات عن القصاص كتشريع عادل يحفظ الدماء، وعن الوصية باعتبارها مظهرًا من مظاهر التكافل، وعن الصيام كمحطة روحية لتزكية النفوس وتقوية الإرادة.
ومن أعظم ما ورد في هذا المقطع، الحديث عن شهر رمضان، حيث نزلت الآيات التي تُبين فضله، وتُشرع صيامه:
"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..." البقرة: 185
.2 نماذج بشرية ومواعظ إلهية (الآيات 204-220)
في هذا المقطع، تقدم السورة نماذج بشرية شتى، بين أهل النفاق الذين يخادعون الله والناس، وبين عباد الله الصادقين الذين يبيعون أنفسهم ابتغاء مرضاته. كما يُبيّن أهمية الإحسان في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويُحذّر من الفساد في الأرض.
.3تفاصيل أحكام الأسرة (الآيات 221-242)
تضمنت هذه الآيات أصول بناء الأسرة المسلمة باعتبارها اللبنة الأولى في المجتمع الإسلامي. فتناولت أحكام الزواج والطلاق، وحقوق الزوجين، وأحكام الرضاعة، والعِدة، والنفقة. وأكدت على العدل والإحسان في التعامل بين أفراد الأسرة، لأنّ صلاح المجتمع يبدأ من صلاح الأسرة.
.4قصص الإحياء والإماتة والعبرة منها (الآيات 243-260)
لترسيخ الإيمان في النفوس، تسوق السورة عددًا من القصص التي تبين قدرة الله على الإحياء والإماتة، ومنها:
- قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم.
- قصة إبراهيم عليه السلام عندما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.
- قصة طالوت وجالوت التي توضح سنن الله في النصر والهزيمة.
.5 الإنفاق؛ آدابه والمستحقون له (الآيات 261-274)
تؤكد هذه الآيات على أن المال وسيلة لإقامة العدل في المجتمع، وتحث على الإنفاق في سبيل الله، وتُبين الفرق بين الصدقة التي تُبتغى بها وجه الله، والرياء الذي يُذهب بركة العمل. كما تُبرز هذه الآيات أهمية الإنفاق باعتباره وسيلة لنماء المال، وليس لنقصانه:
"مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ..." البقرة: 261
.6 حفظ الأموال عن الحرام وعن الإضاعة (الآيات 275-283)
تختم السورة هذا المحور بالتحذير الشديد من التعامل بالربا، حيث وصفه الله بأنه إعلان للحرب على من يتعامل به، وبيّنت أحكام الدين والتوثيق لحفظ الحقوق المالية بين الناس.
ختام المحور الثاني
بهذه المقومات، تكون أمة الإسلام قد تأهلت لحمل الأمانة والخلافة في الأرض، وفق منهج الله العادل الشامل. وقد ختمت السورة بآيات جامعة تلخص هذه المعاني، وتحث المؤمنين على التمسك بدينهم، والتضرع إلى الله أن يعينهم على حمل هذه المسؤولية العظيمة:
"رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..." البقرة: 286
وفي المقال القادم، سنستعرض بإذن الله خاتمة سورة البقرة، التي تُوجت بهذا الدعاء العظيم، لنرى كيف ارتبطت بدايات السورة بنهايتها، وكيف تحققت فيها وحدة الموضوع. نسأل الله أن يرزقنا تدبر كتابه والعمل به. آمين.
تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.
Comments
Post a Comment