رمضان والقرآن (6): محاور سورة البقرة (الجزء الرابع) — مناسبة اسم السورة لمحورها
تحمل سورة البقرة هذا الاسم لورود قصة "البقرة" فيها، وهي قصة لم تُذكر في أي سورة أخرى، مما يدل على خصوصية علاقتها بمحور السورة ومقاصدها الكبرى.
عند التأمل في هذه القصة، نجد أنها تسلط الضوء على قضايا جوهرية تعكس معاني السورة وأهدافها، ومن أبرز هذه القضايا:
- ترسيخ عقيدة التوحيد الخالص وعدم التعلق بالخرافات أو تقديس المخلوقات.
- كشف تردد بني إسرائيل في تنفيذ أوامر الله، مما يعكس ضعف يقينهم وسوء طاعتهم.
- استهزاؤهم بأنبيائهم ومجادلتهم لهم بدلًا من التسليم والانقياد لما جاءوا به من الحق.
- تسليط الضوء على طبيعتهم العدوانية وسفكهم للدماء مع محاولتهم التهرب من المسؤولية.
- إثبات قدرة الله على إحياء الموتى، وهو من أعظم الأدلة على البعث والنشور.
الترابط بين قصة البقرة ومحور السورة
هذه الدروس المستفادة من القصة ليست مجرد أحداث عابرة، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحاور الرئيسة للسورة.
.1عقيدة التوحيد والإيمان بالغيب
افتُتحت السورة بوصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بالغيب، وهو جوهر العقيدة الإسلامية. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في قصة البقرة، حيث كان المطلوب من بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة امتثالًا لأمر الله، دون البحث عن تفسيرات عقلية أو حجج منطقية، لكنهم بالغوا في الجدل حتى شُدّد عليهم الأمر. وهذا السلوك يعكس الفرق بين الإيمان الصادق، القائم على التسليم لله، وبين المراوغة والجدل الذي يعكس ضعف اليقين.
2 . الإيمان بالبعث والحياة بعد الموت
من القضايا المحورية في سورة البقرة قضية الإيمان بالبعث والنشور، وقد جاءت في السورة عدة شواهد عملية على ذلك، منها:
- إحياء بني إسرائيل بعد صعقهم عندما طلبوا رؤية الله جهرة.
- إحياء الذين فرّوا من ديارهم حذر الموت ثم أماتهم الله وأحياهم.
- قصة الرجل الذي مرّ على قرية خاوية فبعثه الله بعد مائة عام.
- تجربة إبراهيم عليه السلام حين طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى.
- وأخيرًا، قصة القتيل الذي أُمروا بضربه ببعض أجزاء البقرة ليعود إلى الحياة ويشهد على قاتله.
هذه الآيات كلها تؤكد قدرة الله على الإحياء والإماتة، وتُرسي الإيمان بالبعث، وهو أحد أكبر تحديات بني إسرائيل الذين طالما طلبوا الأدلة المادية المحسوسة، وعاندوا في التسليم بالغيب.
يقول ابن تيمية في ذلك:
"اشتملت السورة على خمس قصص تتحدث عن إحياء البشر، وقصة لإحياء الطير، وقصة لحفظ الطعام والشراب، وكلها شواهد على قدرة الله المطلقة."
ختامًا
سورة البقرة، بمحتواها المتنوع وأحداثها العظيمة، تهدف إلى إعداد الأمة المسلمة لحمل أمانة الخلافة في الأرض، ولذلك عرضت نموذج بني إسرائيل الذي فشل في تحقيق هذه الأمانة، ثم قدّمت لأمة الإسلام المنهج القويم الذي يجب أن تسير عليه. وقصة البقرة تأتي لتجسّد هذا المفهوم، حيث تكشف سلوك بني إسرائيل في التعامل مع أوامر الله، في مقابل ما يُطلب من المؤمنين من إيمان وتسليم صادق.
وهكذا، نجد أن اختيار اسم السورة لم يكن اعتباطيًا، بل جاء معبرًا عن مضمونها العميق ورسالتها الخالدة.
تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.
Comments
Post a Comment