رمضان والقرآن (12): محاور سورة آل عمران (الجزء الرابع) — علم الله

سلسلة رمضان والقرآن

من المواضيع العظيمة التي تناولتها سورة آل عمران: إثبات العلم المطلق لله تعالى، فهو سبحانه العليم بكل شيء، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه أمر في السماوات أو في الأرض. يقول تعالى: 

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 66]، 

فالبشر، مهما بلغوا من العلم، يبقون في نطاق الجهل النسبي، مقيدين بحواسهم وعقولهم المحدودة، بينما علم الله واسع غير متناهٍ، يدبّر الأمور بحكمة لا يدركها البشر إلا بما شاء الله أن يكشف لهم منها.


ومن مظاهر هذا العلم المطلق تصرفه في الكون وفق مشيئته المطلقة، يمنح الفضل لمن يشاء، ويرفع من يشاء، ويهدي من يشاء. قال تعالى: 

﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [آل عمران: 73-74]. 

فالهدى لا يُنال بمجرد السعي البشري وحده، وإنما هو منحة إلهية، يهيئ الله أسبابه لمن أخلص قلبه للحق، وسعى إليه بصدق.


وفي إطار تأكيد علم الله المطلق وقدرته العادلة، تأتي السورة لتبرئة الأنبياء من مزاعم أهل الكتاب الذين نسبوا إليهم ما ليس منهم. فالله يعلم حقيقة رسله وصفاء دعوتهم، وأنهم لم يطلبوا من الناس عبادتهم، بل كانوا دعاة إلى توحيد الله وحده. قال تعالى: 

﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 79-80]. 

فالعلم الإلهي يعلم مكر من افتروا على الرسل، ويعلم من اتبعوا طريق الحق بإخلاص.


تأمل هذه الآيات يُعيد الإنسان إلى حقيقته: عبدٌ ضعيف لا يملك من العلم إلا ما أراده الله له، ولا يحيط بشيء من أمر الله إلا بما شاء، فتتولد في قلبه الطمأنينة حين يستسلم لحكمة الله، ويتوكل على العليم الحكيم في كل شأن من شؤونه.


تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام