الإسلام والبيئة (13): هل الحضارة الغربية بريئة من دمار الأرض؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كنتُ أقف أمام الحكيم والأطفال، تغمرني الحيرة، وألقيت بسؤالي الذي كنت أتحرق لطرحه:

"ألا ترى أنه من غير المنصف أن نتهم الغرب بأنه سبب تخلفنا ومشاكلنا؟ نحن ننبهر دائمًا بحجم التطور الذي شهدته الدول الأوروبية والدول الصناعية الكبرى. أنظر إلى شوارعهم المنظمة، والحدائق الساحرة، والإنارة النظيفة، والإشارات المنضبطة، والنظام الصارم الذي يجعل مدنهم أماكن مريحة للعيش. ألا يستحقون التقدير بدلاً من الاتهام؟"

لم يُجب الحكيم على الفور، بل التفت إلى أحد الأطفال الجالسين بقربه، وقال له:

"اقرأ علينا الآية الثامنة من سورة المائدة."


رفع الطفل صوته ببراءة، وهو يتلو قول الله تعالى:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ"

ابتسم الحكيم بحنان، ثم نظر إليَّ قائلًا:

"دعنا نُنصِفهم إذًا. نعم، ما تراه من نظام ونظافة وجمال في بلادهم لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة جهود جبارة، وخطط استراتيجية، ووزارات متخصصة، وقوانين بيئية صارمة، ومناهج تعليمية تُرسّخ الوعي البيئي في عقول الأجيال منذ الصغر. الإعلام عندهم يعمل على نشر الثقافة البيئية، وعقوبات المخالفين تُطبَّق بحزم، فلا غرابة أن تبدو بلدانهم كما وصفتها."


هززت رأسي مؤيدًا، لكن الحكيم تابع بنبرة قوية وهو يثبت عينيه في عينيّ:

"لكن هل تساءلت يومًا لماذا لا يُظهرون هذا الاهتمام عندما يتعلق الأمر ببلاد المسلمين؟ لماذا لا يمتد هذا الحرص البيئي إلى خارج حدودهم، بل يتحول إلى استغلال وقهر وتدمير؟ لماذا صارت بلادنا مكبًّا لنفاياتهم النووية، ومختبرًا لتجاربهم القاتلة، وساحة لحروبهم المدمرة؟"


شعرتُ بوخزة في صدري، لكنه لم يمهلني كثيرًا، بل تابع:

"لنأخذ مثالًا بسيطًا من تاريخ الاستعمار، وتحديدًا من فرنسا، التي تدّعي اليوم أنها نموذجٌ للتحضر.

في 13 فبراير 1960، فجَّرت فرنسا أول قنبلة نووية لها في جنوب الجزائر، كانت قوتها تفوق قنبلة هيروشيما بأربع مرات! ثم واصلت جرائمها بإجراء 57 تجربة نووية أخرى، فجَّرت خلالها 17 قنبلة، تاركةً وراءها أرضًا مشعة وآلاف الضحايا الذين ابتلعتهم الأمراض والموت البطيء.

لكن الإجرام لم يتوقف هنا… تصور أن 150 جزائريًا كانوا مسجونين في سجن "سيدي بلعباس"، تم إخراجهم عنوةً، وربطهم على مقربة من موقع التفجير، لا لشيء إلا ليراقب الفرنسيون تأثير الإشعاع النووي على أجسادهم!

واليوم، وبعد كل هذه العقود، ترفض فرنسا حتى الاعتذار عن هذه الجريمة، بل ترفض تسليم الخرائط التي تكشف أماكن دفن نفاياتها النووية في الصحراء الجزائرية، تلك النفايات التي ما زالت تقتل حتى يومنا هذا."


ساد الصمت، لكنني شعرتُ بأنه لم ينتهِ بعد… وبالفعل، استأنف الحكيم كلامه بصوت مشحون بالغضب المكبوت:

"ولنذهب بعيدًا… إلى أكبر جريمة بيئية في التاريخ… إلى "هيروشيما" و"ناجازاكي".

في صيف 1945، أطلقت أمريكا قنبلتين ذريتين، الأولى على هيروشيما، والثانية على ناجازاكي. لم يكن اسماهما "الولد الصغير" و"الرجل البدين" سوى خدعة لفظية تُخفي وراءها موتًا لمئة وأربعين ألف إنسان في لحظة واحدة! وثمانين ألفًا آخرين في ناجازاكي!

مدن بأكملها تحولت إلى رماد، والناجون حملوا في أجسادهم لعنة الإشعاع النووي، التي استمرت تتوارث عبر الأجيال."


تملكتني القشعريرة، وقبل أن أجد الكلمات، أكمل الحكيم حديثه وهو يرفع سبابته:

"هذا هو الفرق بين حضارة تقتل، وحضارة تحيي… الإسلام لم يعرف هذا الإجرام البيئي قط، بل كان يحمل رسالةً مضادة لكل ذلك. رسالة حياةٍ، لا رسالة موت. ألم تقرأ حديث رسول الله ﷺ؟"

رفع أحد الأطفال صوته مرددًا الحديث الشريف:

"من أحيا أرضًا ميتةً فهي له" رواه الترمذي.

وقال طفل آخر وهو يبتسم بفخر:

"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل" (رواه أحمد).


أخذت نفسًا عميقًا، ونظرت حولي… كان الأطفال يبتسمون وكأنهم فهموا شيئًا عجزتُ عن إدراكه طوال حياتي.

لقد تعلموا أن الحضارة ليست مجرد طرق نظيفة وحدائق جميلة، بل قيمٌ وأخلاق. الحضارة الحقيقية لا تُبنى على خراب الأرض، بل على إعمارها.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام