رمضان والقرآن (14): محاور سورة آل عمران (الجزء السادس) — المال

 

المال شريان الحياة، ووسيلة الإنسان لتلبية حاجاته، لكنه في ميزان القرآن فتنة واختبار، يُبتلى به المرء ليُنظر: أيكون المال في يده أم في قلبه؟ أيسخّر المال لما يرضي الله أم يجعله غايته الكبرى؟ في سورة آل عمران، نجد إشارات متعددة إلى قضية المال، تنوعت بين الحث على الإنفاق، وذم التعلق به، والتحذير من البخل، وتأكيد أن المال – مهما بلغ – لا يغني عن صاحبه شيئًا يوم الحساب.

---

الإنفاق في سبيل الله: تجارة رابحة

يُبيّن الله سبحانه في آيات السورة فضل الإنفاق، ويصفُ عباده المتقين بصفات من بينها السخاء والجود، فيقول:

﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ (آل عمران: 17)

فالإنفاق في سبيل الله علامة الإيمان، ومن دلائل صدق العبد في توجهه إلى ربه. لكنه ليس أي إنفاق، بل يجب أن يكون من أحبّ ما لدى الإنسان، مما يجد في نفسه ميلاً إليه:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92)

وهذا أعظم اختبار للعبد، فليس العطاء حين يفيض المال، ولكن العطاء الحقيقي حين يكون مما يحبه الإنسان ويتمسك به. وهنا يتجلى صدق الإيمان وعمق اليقين.

---

الإنفاق في كل الظروف: سر البركة

لا يُطلب الإنفاق فقط في الرخاء، بل حتى في الضيق والشدة، فالكرم لا يُقاس بالثراء، بل بمدى استعداد الإنسان لبذل ما يستطيع مهما قلّ، كما قال الله عن المتقين:

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134)

وهنا يأتي شهر رمضان ليكون مدرسة عملية لهذه المعاني، فالإنفاق فيه يتضاعف أجره، ويتسابق فيه المؤمنون لفعل الخير، ويشعر الغني بحاجة الفقير، فيرقّ قلبه ويزداد سخاؤه.

---

المال لا يغني عن صاحبه شيئًا

وفي مقابل الحث على الإنفاق، يحذر القرآن من الغرور بالمال والاعتماد عليه، فقد بينت السورة أن المال لا يمكن أن يكون عاصمًا من عذاب الله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ (آل عمران: 10)

وتكرّر هذا المعنى ليؤكد أن المال مهما بلغ لن يستطيع افتداء صاحبه من عذاب الله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (آل عمران: 91)

فما قيمة المال إذا لم يكن وسيلة لمرضاة الله؟ وما نفعه إن كان صاحبه يتخذه غاية لا وسيلة؟

---

البخل والشح: أعداء الخير

من أمراض القلوب التي تحذر منها السورة: البخل، وهو عائق عن الإنفاق في سبيل الله، وسبب في فساد النفس والمجتمع، فالمال حين يحتكره الإنسان لنفسه دون مراعاة حاجات الآخرين، يتحول من نعمة إلى نقمة.

أما الجود، فهو سبيل البركة، وسبب في تآلف القلوب، وسعادة لا يدركها إلا من ذاق لذة العطاء.

---

المال في مواجهة الفتن والابتلاءات

لم يخلُ حديث السورة عن المال من بيان جانب الابتلاء فيه، فقد أشارت إلى أن المؤمن قد يُختبر في ماله، ويتعرض للأذى بسببه من قبل أعداء الدين، وهنا يأتي التوجيه الإلهي بالصبر والثبات:

﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186)

وهذا يذكرنا أن المال أمانة، وقد يكون بابًا للفتنة إن لم يحسن صاحبه التصرف فيه، ولهذا كانت التقوى والصبر طريق النجاة في زمن المحن.

---

رسالة رمضانية: أين مالك؟

رمضان فرصة عظيمة لمراجعة علاقتنا بالمال، هل هو في أيدينا أم في قلوبنا؟ هل نبذل منه في الخير أم نمسكه خشية الفقر؟ هل نتصدق بسخاء أم نقدم فتات ما لا نحتاجه؟

هذا الشهر يفتح لنا أبواب الرحمة، ويحثنا على العطاء، ويذكرنا بأن المال مهما كثر فهو إلى زوال، لكن ما يُنفق لوجه الله هو الذي يَبقى، كما قال سبحانه:

﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: 96)

فلنحرص أن يكون مالنا شاهدًا لنا لا علينا، ولنغتنم أيام رمضان في الإنفاق، لننال بركة العطاء، ونحظى بخير الجزاء من رب الأرض والسماء.

---

تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.