الإسلام والبيئة (14): كيف حوّل النبي ﷺ المدينة من بؤرة وباء إلى واحة خضراء؟

سرتُ وسط الركام الذي غطّى الأرض، والأفق الملبّد بالسواد والذي يوحي بأن الحياة قد لفظت أنفاسها الأخيرة هنا. كنت لا أزال أحاول استيعاب هذا الواقع الجديد حين انطلقتُ بسؤالي إلى الحكيم الذي يقف بين الأطفال، يحيطونه بعيونهم المتلهفة للمعرفة.
قلت له:
"يشعر كثير من الناس أن تعاليم الإسلام الخاصة بالبيئة نظرية أكثر منها عملية. هل لديك أمثلة تثبت أن تعاليم النبي ﷺ يمكن أن تؤتي ثمارها في هذا العصر أو أنها قد سبق وطُبّقت من قبل؟"
نظر إلي الحكيم مليًا ثم التفت إلى أحد الأطفال قائلاً:
"اقرأ علينا ما قاله الله تعالى في كتابه العظيم."
فصدح صوت الطفل بآية كريمة:
"وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا" الفرقان: 48-49
هز الحكيم رأسه ثم قال:
"دعني أعود بك إلى المدينة قبل هجرة النبي ﷺ إليها. كانت واحة مريضة، ينتشر فيها الحمى، ويئن الصحابة من وطأة المرض. كان أبو بكر وبلال بن رباح ممن أصابهم السقم. لقد كانت المدينة موطنًا للحمى، بيئة موبوءة لا تصلح للعيش."
ثم أردف قائلا:
"ولكن ما الذي فعله النبي ﷺ؟ كيف حوّلها إلى مكان صحي مزدهر؟"
وقبل أن أجد الوقت لأفكر في الرد أسرع يقول بحماسة شديدة:
توفير المياه الصالحة للشرب
"لقد أدرك النبي ﷺ أن توفير المياه النقية هو أساس الحياة، فحث الصحابة على شراء بئر رومة التي كانت المصدر الوحيد لمياه الشرب. فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه بشرائها من ماله الخاص وجعلها وقفًا للمسلمين، مما ساهم في تقليل الأمراض ونشر العافية بين الناس."
التشجير ومكافحة التلوث
"لم يقتصر الأمر على المياه، بل امتد إلى الطبيعة الخضراء. أمر النبي ﷺ بزراعة الأشجار ومنع قطعها، حتى إنه قال: ' من قطع سدرةً صوَّب الله رأسه في النار.' كما أنه حرّم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، فلا يُقطع شجرها ولا يُقتل صيدها. فبهذا ازداد الغطاء النباتي، وانخفضت مسببات التلوث والأوبئة."
استصلاح الأراضي وإحياء الموات
"لم يكن العمل البيئي في الإسلام مجرد شعارات، بل أوامر عملية، فقال النبي ﷺ: 'من أحيا أرضًا ميتة فهي له.' فانتشر العمل على زراعة الأرض المهجورة، مما زاد الإنتاج الزراعي ورفع مستوى المعيشة."
التعامل مع المرضى وعدم تهميشهم
"لم يكن الحل مقتصرًا على البيئة، بل شمل حتى المرضى أنفسهم. كان النبي ﷺ يعلّمهم الصبر على البلاء، ويحثّهم على الاستمرار في العمل رغم مرضهم، فقال: 'اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.' فلم يسمح لهم بالاستسلام للمرض، بل دفعهم للمشاركة الفعالة في المجتمع."
دعاء النبي ﷺ والعمل الجاد
"ولم يكن النبي ﷺ يكتفي بالأسباب المادية، بل لجأ إلى ربه داعيًا: ' اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حماها إلى الجحفة.' ومع هذا الدعاء لم يجلس الناس بلا عمل، بل اجتهدوا في إصلاح الأرض، وتحسين الظروف الصحية، فبدأت المدينة تتحول تدريجيًا إلى بيئة نظيفة صحية."
إنشاء البنية التحتية الصحية
"بعد هذه الإجراءات، بدأت معالم التغيير تظهر بوضوح. فأنشئت الحمامات العامة، وبدأ استخدام السراج لإنارة المسجد، وظهرت ثقافة جديدة تحث على النظافة والطهارة الشخصية، مثل الغسل، والتطيب، والعناية بالملابس. كانت هذه بداية لنهضة بيئية متكاملة."
نظر إليّ الحكيم ثم قال:
"هذه تعاليم النبي ﷺ التي سبقت أبحاثكم بقرون، وهي ليست مجرد نظريات، بل مبادئ لو طبقت كما طُبّقت في المدينة المنورة، لكان حال الأرض اليوم مختلفًا تمامًا. فهل ستأخذ هذه التعاليم معك إلى زمنك، أم ستدع الأرض تلاقي مصيرها المحتوم؟"
أطرقت رأسي، وأنا أرى المدينة القديمة تنهض من بين الأنقاض أمام عينيّ.
تُرى... هل لا يزال هناك أمل لزمننا؟
Comments
Post a Comment