رمضان والقرآن (15): محاور سورة آل عمران (الجزء السابع) — بين الظواهر والحقائق

 

سلسلة رمضان والقرآن

من المقاصد العميقة التي برزت في سورة آل عمران المقارنة بين ظواهر الأمور وحقيقتها. وهذا المعنى يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمحور السورة وقضية التوحيد، إذ أن الانحراف في العقيدة، مثلما حدث في قصة عيسى عليه السلام، نشأ عن التعلق بالظواهر وإغفال الحقائق الكبرى.


صور التعلق بالظواهر في السورة

 التعلق بظاهر النصوص المتشابهة، في مقابل الحقائق الراسخة في العلم
أشارت السورة إلى وجود آيات محكمات هن أمّ الكتاب، وإلى وجود آيات متشابهة قد يتعلق بها أصحاب القلوب المريضة بحثًا عن الفتنة. وهذا ما وقع فيه كثير من أهل الضلال حين تركوا المحكم وركزوا على المتشابه، فكانت النتيجة انحرافهم عن الحقيقة.


 التعلق بظاهر كثرة المال والولد، في مقابل الحقيقة الأزلية بأنهما لا ينفعان عند الله
 

قال الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ (آل عمران: 10(

وهذا يردّ على الذين يقيسون النجاح والغلبة بكثرة المال والذرية، غافلين عن أن الأمر كله بيد الله، وأن الحساب يوم القيامة لا يكون بالماديات، بل بالإيمان والعمل الصالح.


التعلق بشهوات الدنيا، في مقابل نعيم الآخرة
 

قال الله تعالى:

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ )آل عمران: 14(

فالناس يتنافسون على الدنيا، وينشغلون بجمع المال والجاه، لكن الله يلفت أنظارهم إلى ما هو أسمى وأدوم، وهو النعيم في جواره سبحانه.


التعلق بظاهر المُلك والعزة، في مقابل الحقيقة بأن الله يؤتي الملك لمن يشاء
 

قال تعالى:

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ )آل عمران: 26(

وهذه الآية تذكرنا بأن المناصب والمُلك لا تدوم، وأن العزة الحقيقية هي في طاعة الله والتوكل عليه.


تعلق امرأة عمران بالذكور، في مقابل الحقيقة بأن الأنثى التي رزقها الله كانت خيرًا لها
 

قالت امرأة عمران:

﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ (آل عمران: 35-36(

لقد ظنت أن الذكر هو الأصلح لخدمة الدين، لكن الله اختار لها أنثى صالحة، كانت من أعظم نساء العالمين، وهي مريم عليها السلام.


التعلق بظاهر العجز وكِبَر السنّ، في مقابل قدرة الله المطلقة على الخلق
 

قال زكريا عليه السلام:

﴿رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ﴾ )آل عمران: 40(

لكن الله أثبت أن مشيئته فوق كل اعتبار، فوهبه يحيى عليه السلام رغم كل الموانع الظاهرة.


تعلق النصارى بظاهر خلق عيسى، في مقابل حقيقته البشرية
قال الله تعالى:

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ )آل عمران: 59(

لقد تعلقوا بظاهر معجزته ونسوا أن آدم خُلق بلا أب ولا أم، فكيف يكون عيسى إلهًا لمجرد أنه وُلد بلا أب؟


التعلق بظاهر النصر في غزوة أحد، في مقابل الحقيقة أن النصر من عند الله
قال تعالى:

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ )آل عمران: 126(

فقد ظن المسلمون أن النصر سيكون مضمونًا، لكن الله أراد أن يعلّمهم أن النصر مرتبط بطاعته لا بقوة السلاح.


التعلق بظاهر الغنى، في مقابل أن الدنيا متاع زائل
قال اليهود:

﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ )آل عمران: 181(

لكن الله رد عليهم مؤكدًا زيف اعتقادهم:

﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ )آل عمران: 185(


خلاصة

السورة تعلّمنا ألا ننخدع بالمظاهر، وألا نغفل عن الحقائق الكبرى. وفي رمضان، نحن بحاجة إلى تجديد بصائرنا، والارتقاء بإيماننا، لنرى الأمور بمنظور أوسع وأعمق، كما أراد الله لنا.



تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام