رمضان والقرآن (17): المناسبة بين افتتاحية سورة آل عمران وخاتمتها
في ظلال القرآن، تتجلى حكمة الله في نسج آياته بترابط محكم، بحيث تتناغم بدايات السور مع خواتيمها، وكأنها تضع القارئ في رحلة تبدأ بسؤال وتنتهي بجوابه، أو بتحدٍّ وتُختتم بالحلّ. وسورة آل عمران من أعظم السور التي يظهر فيها هذا الترابط البديع بين مطلعها وختامها، في مشاهد تفيض بالنور لمن تأملها.
دعاء المؤمنين في البداية والنهاية
تفتتح السورة بتضرع المؤمنين، دعاءً بالثبات على الحق:
﴿رَبَّنَا
لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ
لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
(آل
عمران: 8-9)
وتُختتم السورة بدعاء المؤمنين أيضًا، لكن هذه المرة يطلبون العفو والمغفرة والنجاة من النار:
﴿رَبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ
رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
(آل
عمران: 193-194)
مصير الكفار: تحقير شأنهم في البداية والنهاية
في بداية السورة، يُبَيَّن مآل الذين كفروا:
﴿إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾
(آل
عمران: 10)
وفي خاتمتها، يُخَتَم بذِكر أن ما يراه الكافرون من تقلّبٍ في نعيم الدنيا، هو مجرد متاع زائل:
﴿لَا
يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
(آل
عمران: 196-197)
إنزال الوحي في البداية والنهاية
تبدأ السورة بالإشارة إلى إنزال الكتب السماوية:
﴿نَزَّلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾
(آل
عمران: 3)
وفي ختامها، يُذكَر نفس الموضوع، حيث يُثنى على الذين يؤمنون بهذه الكتب، ويُقرّ لهم بالفضل:
﴿وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾
(آل
عمران: 199)
آيات الله: المكتوبة في الكتب والمنظورة في الكون
في البداية، يُذكر الوحي المسطور (الكتب السماوية):
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (آل عمران: 5)
وفي النهاية، يأتي الحديث عن الوحي المنظور في الكون وآياته العظيمة:
﴿إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ﴾
(آل
عمران: 190-191)
بين شهوات الدنيا ونعيم الآخرة
في بداية السورة، يُذكَر تعلّق الناس بشهوات الدنيا، مثل المال والبنين:
﴿زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾
(آل
عمران: 14)
وفي ختامها، يُحذَّر الذين يبخلون بأموالهم:
﴿وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ
خَيْرًا لَهُمْ﴾
(آل
عمران: 180)
الولاء والبراء في البداية والنهاية
جاء النهي عن موالاة الكافرين في أول السورة:
﴿لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
(آل
عمران: 28)
وفي ختامها، يأتي تأكيد الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين:
﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ
الْأَبْرَارِ﴾
(آل
عمران: 193)
وقوله: (فالذين هاجروا) (آل عمران: 195)
طاعة الله ورسوله من أول السورة لآخرها
في مطلعها، يأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله:
﴿قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾
(آل
عمران: 31-32)
وفي ختامها، يُثنى على الذين استجابوا لنداء الرسول:
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾
(آل
عمران: 193)
خاتمة
تأمل هذا التناغم العجيب في سورة آل عمران، كيف تبدأ بأسئلة وتحديات، ثم تأتي الإجابات والحلول في نهايتها. فالبداية تضعك أمام المشهد، والنهاية تجيبك بما يملأ قلبك يقينًا. وهذا من روائع البيان في القرآن، حيث يرتبط كل جزء بالسياق العام، لتكون كل سورة لوحة متكاملة لا انفصال بين أجزائها.
فهنيئًا لمن تدبر!
تم الاستفادة في هذه السلسلة من كتاب التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، تأليف نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم، لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.
Comments
Post a Comment