الإسلام والبيئة (18): الإنسان والطبيعة بين الحق والواجب

 

سلسلة الإسلام والبيئة

جلسنا حول الشيخ الحكيم، وقد بدا على ملامحه التعب والإرهاق، لكنه كان مُصمّماً على أن يمنحنا درساً جديداً في رحلتنا الطويلة. وكعادته، لم يكن هو البادئ بالكلام، بل فاجأني أحد الأطفال بسؤال أربكني للحظة، فقال:

هل الكون حق أم واجب بشري؟

تسائلت:

ماذا تعني؟

رفع الطفل حاجبيه قائلاً:

أقصد، هل البيئة وما فيها من موارد حق للبشر لاستغلالها؟ أم أن على الإنسان واجباً في حمايتها وتأمين سلامتها؟


تأملت السؤال قليلاً، ثم أجبت بثقة:

كلاهما! فالأرض وما فيها سُخّرت لخدمة الإنسان، لكنه في الوقت ذاته مسؤول عن الحفاظ عليها، لأن الله استخلفه فيها.

نظر إليّ الطفل بمكر وكأنه أمسك عليّ خطأً، ثم التفت إلى الحكيم ليطلب منه رأيه. أومأ الشيخ برأسه موافقاً على جزء مما قلت، لكنه قال بصوت هادئ:

لقد أصبتَ في نصف الحقيقة، لكنّ هناك ما يجب توضيحه. لفهم الأمر كاملاً، علينا أن نتأمل التركيبة المنتظمة للإنسان والعالم، وندرك كيف ترتبط الأشياء ببعضها البعض. هناك ثلاث علاقات رئيسية تحكم الوجود:

  1. علاقة الإنسان بنفسه.
  2. علاقة الإنسان بالإنسان.
  3. علاقة الإنسان بالعالم.


ثم أضاف الحكيم:

هذه العلاقات ليست مستقلة عن بعضها البعض، بل هي أجزاء من منظومة واحدة متكاملة، فإذا أُفسدت إحدى هذه العلاقات، اضطربت البقية. وسأبدأ لكم الحديث عن جمال الخلقة، وكيف يرتبط جمال الإنسان بجمال العالم، ولماذا أي تغيير قبيح في الخلق يُعدّ انحرافاً عن الحكمة الإلهية.


إن القرآن الكريم يجعل من عالم الخلق مرآةً لجمال الله وعظمته، قال تعالى:

"الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" السجدة: 7

أما الإنسان، فقد قال الله عنه:

"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" التين: 4

كما قال:

"فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ" غافر: 64

وهذا يدلّ على أن الجمال ليس مجرد مظهر خارجي، بل نظام متكامل يعكس التناسق الإلهي في كل شيء.


ثمّ نظر إليّ الحكيم مباشرةً وقال:

الإنسان هو أجمل مخلوق، لكنّ جماله لا يكمن فقط في شكله، بل في روحه وسلوكه وأثره في الأرض. فقد قال الله بعد أن بيّن تكوين الإنسان:

"فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون: 14

ثم صمت لحظة وأضاف:

عندما يحيد الإنسان عن فطرته السليمة، فإنه لا يُفسد نفسه فحسب، بل يؤثر على العالم من حوله، فيشوّه الجمال الإلهي الذي وضعه الله في الكون.


أخذ أحد الأطفال نفسًا عميقًا وقال للحكيم: 

لكن كيف يكون العالم جميلاً وهو مليء بالكوارث والخراب؟

ابتسم الحكيم وأجاب:

إن جمال عالم الخلق يكمن في نظامه وانتظامه، فكل شيء فيه خُلق بحكمة، وكل مخلوق وُضع في مكانه الصحيح ليؤدي وظيفته. قال الله تعالى:

"رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" طه: 50

وهذا يعني أن الله خلق كل شيء وفق استعداده، وأودع فيه نظامًا هادفًا يحقق التوازن في الحياة. لكن حين يتدخل الإنسان بشكل أعمى، فيعبث بالنظام الطبيعي، تظهر الكوارث التي يظنها "ظواهر طبيعية"، وهي في الحقيقة نتائج أفعاله هو.


ساد الصمت للحظات، ثم قلت متسائلًا:

لكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا؟

أجاب الحكيم بصوت متهدّج:

عندما يشوّه الإنسان الجمال الذي وضعه الله في الكون، فإنه يشوّه نفسه أيضًا. أيّ خلل في النظام الطبيعي يعكس خللًا في روح البشر وسلوكهم. ولهذا كان الشيطان هو أول من دعا إلى العبث بخلق الله، قال تعالى:

"وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ" النساء: 119

ألا ترى اليوم كيف يتلاعب الناس بالطبيعة؟ كيف يُعدَّل الطعام وراثيًا؟ كيف تُنتج المواد الحافظة والكيماويات التي تُدخل السمّ إلى أجسادنا؟ كيف أصبح كل شيء مغلّفًا ومصطنعًا حتى الهواء الذي نتنفسه؟!


ثم تنهد الحكيم وأردف:

ليس المطلوب أن نعود إلى حياة بدائية، بل أن نحيا بتناغم مع العالم كما أراد الله، نستفيد منه بلا طغيان، ونحميه بلا تعطيل.

تسائلت بلهجة صادقة:

إذن، فما هي الحقيقة الكاملة؟

ابتسم الحكيم ونظر إليّ نظرة حانية ثم قال:

الكون ليس فقط حقًا وواجبًا، بل هو أمانة وتسخير مشروط بالهداية، وهو يتفاعل مع صلاح الإنسان وفساده. عندما يُدرك الإنسان أنه مُستخلف في الأرض لا سيدًا عليها، وأن أفعاله لا تؤثر فقط على البيئة بل على النظام الكوني بأسره، عندها فقط يكتمل الفهم.


أومأت برأسي علامة الفهم، ثم قلت:

إجابتي كانت صحيحة من حيث المبدأ، لكنها غير مكتملة لأنني قدمت الحق والواجب باعتبارهما مفهومين منفصلين، بينما الحقيقة الأعمق هي أن العلاقة بين الإنسان والكون ليست مجرد توازن بين الاستغلال والحماية، بل هي منظومة متكاملة قائمة على مبدأ أعمق وهو الأمانة والتسخير المشروط بالهداية.


رأيت ابتسامة رضا تلمع في عينيه ثم تغيّرت نظرته إلى الجدية عندما قال:

هذه هي الرسالة التي يجب أن تحملها إلى زمانك، أن تخبرهم أن الإنسان ليس سيّد الكون المطلق، ولكنه جزء من منظومة خلقها الله بحكمة، وعليه أن يحترمها بدلًا من أن يدمرها.

في تلك اللحظة، شعرت بثقل هذه الأمانة، وعلمت أنني أحمل مسؤولية عظيمة، فإما أن أكون ممن يحفظون الجمال الذي أودعه الله في الكون، أو أكون ممن يساعدون في تشويهه وتدميره...

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام