الإسلام والبيئة (19): خلافة الإنسان بين الإعمار والدمار
كنتُ أسير بين أطلال مدينة كانت يومًا تعج بالحياة، لكنّها اليوم أشبه بجسد متهالك أنهكته الحروب والتلوث والجشع البشري. السماء ملبّدة بسحب رمادية كأنها ترفض أن تمطر، والمباني المهدّمة تقف كشواهد قبر شاهدة على خطايا البشر. الأرض قاحلة، لا خضرة فيها ولا حياة، والمياه الراكدة في الشوارع تعكس صورة عالم نسي معنى النقاء. في هذا المشهد الموحش، جلستُ بجانب الحكيم وتأملتُ هذا الخراب، ثم سألته:
"يا حكيم، لماذا لا يتحد البشر رغم أنهم جميعًا يواجهون المصير نفسه؟ لماذا لا يجتمعون على هدف واحد لإنقاذ ما تبقى من هذا الكوكب؟"
نظر إليّ الحكيم بعينين عميقتين، ثم قال بصوت هادئ لكنه نافذ:
"لأن أفعال البشر تنبع من رؤيتهم لهذا العالم، وهذه الرؤية مختلفة اختلافًا عظيمًا بينهم. فمنهم من يرى أن الطبيعة عدو يجب قهره، ومنهم من يراها مجرد خادم لرغباته. بعضهم يؤمن أن الموارد محدودة فيتصارعون عليها، وبعضهم يرى نفسه فوق الجميع، وبعضهم ينتهز الفوضى ليزداد ثراءً. كيف يجتمع من تفرّقت قلوبهم وتباينت رؤاهم؟"
أطرقتُ مفكرًا، ثم رفعت رأسي وسألته:
"وكيف ينظر الإسلام إلى هذا العالم؟ هل لديه رؤية توحّد البشرية؟"
ابتسم الحكيم، ورفعت الريح طرف عباءته وهو يقول:
"الإسلام لا يرى العالم غابة يتصارع فيها البشر، بل يراه أمانةً وعهدًا بين الله وعباده. فالإنسان لم يوجد عبثًا، ولم يُترك هملاً، بل جُعل خليفةً في الأرض: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]. وهذه الخلافة ليست سلطة مطلقة، بل مسؤولية عظيمة، وواجب مقدّس."
سكت قليلًا ثم تابع:
"الله الذي خلق الإنسان قد أعدّ له الأرض قبل أن يهبط إليها، وجهّزها بكل ما يحتاجه ليقوم بمهمته: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) [الرحمن: 10]. لكنه لم يترك الإنسان ليخوض رحلته وحده، بل علّمه وسلّحه بالمعرفة والفطنة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة: 31]."
تأملتُ كلماته، فاستطرد قائلًا:
"ثم لم يكتفِ بذلك، بل أمره بإعمار الأرض، لا بتدميرها، فقال: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]. هذه الأرض ليست مِلكًا لنا لنستنزفها، ولا ساحة حرب ليتصارع عليها الأقوياء، بل هي أمانة في أعناقنا جميعًا."
تأملتُ السماء الملبدة بالغيوم، وتخيلتُ كيف كانت الأرض خضراء يومًا، ثم سألتُه:
"لكن، لماذا لم يدرك البشر هذه الحقيقة؟ لماذا حادوا عن طريق الإعمار إلى طريق الخراب؟"
أجاب الحكيم بحزن:
"لأنهم نسوا أن الله قد جعل لهم نظامًا يسيرون عليه، ومنهجًا يهديهم. فكما أنّ الله خلق الإنسان طفلًا ثم يسّر له طريق النمو: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس: 20]، فقد جعل للحياة سننًا لا تحيد. من سار على نهج الله عمرت أرضه، ومن أعرض عنه أفسدها ودمرها بيده."
تذكرتُ المدن التي دُمّرت في الحروب، والغابات التي أحرقتها أيدي البشر، والأنهار التي لوّثها الجشع، ثم قلتُ:
"إذن، ما الحل؟ كيف يمكن للبشر أن يعيدوا بناء عالمهم من جديد؟"
نظر إليّ الحكيم طويلًا، ثم قال بصوت يحمل ثقل الحكمة:
"الحل يبدأ بإصلاح الإنسان أولًا. حين يدرك الإنسان دوره الحقيقي كخليفة، ويتبع المنهج الذي وضعه الله، ستعود الأرض كما كانت: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]. لكن قبل أن نفكر في إعادة بناء الأرض، علينا أن نعيد بناء الإنسان."
أخذتُ نفسًا عميقًا، وأدركتُ أن الطريق طويل، لكنه الطريق الوحيد.
Comments
Post a Comment