الإسلام والبيئة (20): الإنسان بين نعمة التسخير وخطر التبذير

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كان المشهد أشبه بلوحة منسية من عصرٍ اندثر. السماء ملبدة بدخان داكن كأنها ترفض أن تتنفس، والأرض جافة متشققة كأنها تحتضر. المدن أصبحت هياكل عظمية لمجدٍ غابر، والأنهار جفت إلا من بقايا ملوّثة تحمل آثار خطايا البشر. لم يكن هذا عالمًا يعج بالحياة، بل أطلال حضارة تآكلت تحت وطأة الاستغلال الجائر والجشع الذي لا يعرف الشبع.

وسط هذا الخراب، التفتُّ إلى الحكيم، مستفسرًا:

"لقد منحنا الله هذا الكون، وسخّر لنا كل ما فيه، فلماذا انتهى بنا الحال إلى هذا الدمار؟ لماذا لم يستطع البشر استغلال النعم التي أُعطيت لهم؟"


ابتسم الحكيم بحزن وأشار إلى أحد الأطفال ليجيب. رفع الصبي رأسه وتلا بصوت خاشع:

"الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار (32) وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار (33) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34) " إبراهيم 32-34

نظر الحكيم إليّ قائلًا:

"أرأيت كيف أن الله كرر كلمة  سخر أربع مرات، وكلمة  لكم خمس مرات في هذه الآيات؟ إنها رسالة واضحة: كل ما في الكون قد جُعل لخدمة الإنسان، لكنه لم يُعطَ له بلا مسؤولية، بل ليستخدمه فيما يحقق العمران والخير للبشرية."


سكت الحكيم للحظة، ثم أردف قائلاً:

"ولكن عندما يُساء استخدام هذه النعم، فإنها تنقلب على الإنسان. اسمعوا قول الله تعالى:

"ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمت الله كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار" إبراهيم 28

"وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار " إبراهيم 34

الطفل الذي كان يقرأ الآيات رفع رأسه وسأل:

"ولكن كيف يكون الإنسان ظلومًا كفارًا؟"


ابتسم الحكيم بحنان وقال:

"عندما لا يستخدم هذه النعم في مواضعها، أو عندما يستنزفها دون وعي، فإنه يكون جاحدًا لفضل الله. التسخير ليس مجرد إعطاء، بل مسؤولية!"

هنا تدخل أحد الأطفال وقال بحماسة:

"لكن الحيوانات والنباتات تستفيد من الشمس والماء والبحار أيضًا، فما الفرق بيننا وبينها؟"


أجاب الحكيم:

"السؤال في محله يا بني. الإنسان ليس مجرد كائن يتلقى النعم كما تفعل المخلوقات الأخرى، بل هو مكلّف بإعمار الأرض وتطوير وسائل الاستفادة منها. لنأخذ بعض الأمثلة:

البحر: الحيوان يشرب ماءه أو يسبح فيه، لكن الإنسان مكلف بالبحث في أعماقه، ودراسة ثرواته، واستخراج المعادن والطاقة منه.

الشمس: تمد الحياة بالنور والدفء، لكن الإنسان مطالب بتحويل طاقتها إلى كهرباء، وبفهم طبيعتها لاستكشاف الفضاء.

الأرض: ليست فقط مكانًا للعيش، بل يجب أن تُزرع وتُبحث مواردها، وتُستكشف طياتها لمعرفة طبقاتها، وتحديد المناطق المهددة بالكوارث."


تنهدت وأنا أقول:

"إذن، المشكلة ليست في أن الله لم يعطنا ما يكفي، بل في أننا لم نعرف كيف نُحسن استخدامه؟"

هز الحكيم رأسه موافقًا وقال:

"تمامًا، فإما أن يكون الإنسان خليفة صالحًا يسير وفق منهج الله في الاستفادة من نعمه، أو أن يكون مسرفًا مفسدًا، فتكون العاقبة كما تراها حولك الآن."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام