الإسلام والبيئة (21): وهم التنمية: كيف كانت البيئة الضحية الأولى للاستعمار؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

في وسط هذا الدمار الهائل، حيث لم تعد السماء زرقاء، ولا البحار صافية، ولا الأرض خصبة، وقفت متأملاً في هذا الخراب الذي خلّفته الأجيال السابقة. المباني المتهالكة تحكي قصصًا عن مدن كانت مزدهرة، لكنها تحولت إلى أطلال بفعل الطمع والاستغلال الجائر. وبينما كنت أتجول في هذا العالم الموحش، سألت الحكيم:

"أليس الغرب قد حاول جاهدًا إعمار الأرض وبناء مشاريع ضخمة لتمويل وتنمية البلدان الفقيرة؟ ألا يجب علينا الاعتراف بذلك؟"


ابتسم الحكيم ابتسامة العالم الذي سمع هذا السؤال مرارًا، ثم قال:

"لقد أصبتَ في نصف الحقيقة، لكن ما لم تدركه بعد هو الوجه الآخر لهذا الإعمار المزعوم. إن النظم الاستعمارية لم تسعَ قط لإعمار الأرض من أجل البشرية، بل سعت إلى إعمار جيوبها وجيوب نخبها، ولو كان ذلك على حساب تدمير البيئة وإفقار الشعوب."

قاطعه أحد الأطفال متحمسًا وهو يتلو قوله تعالى:

"وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: 7).


أومأ الحكيم برأسه وقال:

"لقد كفروا بالنعم التي أُعطيت لهم، فاستغلوها لإذلال الشعوب وسرقة ثرواتها. ألم ترَ كيف يكدس المستكبرون الطعام في صوامعهم حتى يتعفن، بينما يموت الأطفال جوعًا في البلدان الفقيرة؟ ألم تسمع عن الدول التي تمتلك أراضي خصبة ومياهًا عذبة، لكنها تظل فقيرة لأن ثرواتها تُنهب لصالح القوى الكبرى؟ إنهم لا يعمرون الأرض، بل يعمرون مناطق محددة ليحولوها إلى بؤر تابعة لهم، بينما يتركون باقي الأرض خرابًا ليرهنوا الشعوب لأجل لقمة العيش."

قلت مستنكرًا:

"ولكنهم يقدمون مساعدات إنسانية! هناك مشاريع تنموية كثيرة تمولها الدول الغنية في البلدان الفقيرة!"


ضحك الحكيم وقال:

"وهل رأيت ذئبًا يرعى الغنم؟ هذه المساعدات ليست سوى أدوات استعمارية حديثة، تُقدَّم بيدٍ لتُسحب أضعافها باليد الأخرى. لقد فرضوا أنظمة اقتصادية تُجبر البلدان المستضعفة على بيع ثرواتها بأسعار زهيدة، بينما يشترون منهم الضروريات بأغلى الأثمان. ألم تسمع كيف يُستخدم الغذاء كسلاح؟ كيف يُفرض الحظر الاقتصادي على الدول التي ترفض الانصياع لهم، فتموت شعوبها جوعًا؟ ألم ترَ ما فعلوه في العراق بالأمس، وفي غزة اليوم؟"

هنا، أخرج أحد الأطفال مصحفًا صغيرًا، وبدأ يقرأ بصوت مرتفع:

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" (إبراهيم: 28).


سكتُّ لحظة، ثم قلت بصوت منخفض:

"إذًا، كل ما فعلوه لم يكن إعمارًا حقيقيًا... بل كان استغلالًا مقنّعًا؟"

أومأ الحكيم قائلاً:

"بل كان تخريبًا ممنهجًا تحت مسمى التنمية. إنهم لا يعمرون الأرض ليعيش الجميع في رخاء، بل يعمرونها ليستحوذوا عليها. وإن كانوا قد أظهروا اهتمامًا بالبيئة، فذلك فقط للحفاظ على مصادر أرباحهم، لا من أجل الإنسانية."


تنهدتُ وأنا أنظر حولي إلى هذا الدمار، مدركًا أن الرسالة التي يجب أن أنقلها إلى زمني أصبحت أوضح من أي وقت مضى: الخلاص الحقيقي ليس في تقليد المستعمر، بل في العودة إلى تعاليم الإسلام، التي وضعت الإنسان في موضع المسؤولية الحقيقية تجاه الأرض، لا كطاغية يستنزفها، بل كخليفة يعمرها بالعدل والحكمة.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام