الإسلام والبيئة (23): العناية الإلهية والبيئة: هل للكون قانون يحميه؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

في عالمٍ أكلتْه نيرانُ الجشعِ والاستغلال، حيث الأرضُ تئنُّ تحت وطأةِ الخراب، وقفتُ في أطلالِ مدينةٍ كانت يوماً تعجُّ بالحياة. البناياتُ الشاهقةُ صارت هياكلَ خاوية، والأشجارُ التي كانت تُظلِّلُ الشوارعَ جُرِّدت من أوراقها كأنما سُلخت روحُها. في هذه الصورةِ القاتمةِ، وجدتُ الحكيمَ جالساً بين الأطفالِ يشرح لهم شيئاً، فألقيتُ عليه سؤالاً أرقني:

"لماذا خلق الله الكون بهذا الانسجامِ والتناسق؟ ولماذا لا يدرك الناسُ هذه الحكمةَ فيحافظون على البيئة بدلاً من تخريبها؟"


ابتسم الحكيم وقال:

"سؤالك هذا يُحيلُنا إلى قانون العناية الإلهية، وهو من أعظم براهين وجود الله. لقد أودع الله في هذا الكون نظاماً محكماً، كلُّ شيءٍ فيه خُلق بقدر، وكلُّ كائنٍ يؤدي وظيفةً محددةً تضمن استمرار الحياة. فالتوازنُ الدقيقُ بين المخلوقاتِ لم يكن عبثاً، بل هو دليلٌ على عظمةِ الصانعِ وإتقانه."

قلتُ متأملاً:

"إذاً، هذا الكونُ بأسره منظومةٌ متكاملةٌ، كلُّ عنصرٍ فيها يؤدي وظيفةً تخدم بقيةَ العناصر؟"


قال الحكيم:

"نعم، وكما أن الجسدَ الواحدَ يختلُّ بفقدانِ عضوٍ من أعضائه، فإنَّ الكونَ يختلُّ عند اختفاءِ أحد مكوناته. ولهذا، فإن تدميرَ البيئةِ ليس مجرد عبثٍ بالموجودات، بل هو إخلالٌ بحكمة الله في خلقها."

تقدّم طفلٌ وقال:

"وجدتُ حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم يُبيّن هذه الحقيقة، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمٍ يغرسُ غرساً أو يزرعُ زرعاً، فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ) رواه البخاري ومسلم."


قال الحكيم:

"انظروا كيف جعل الإسلامُ الحفاظَ على البيئة عملاً صالحاً يُثاب عليه الإنسان! فمن يدرك قانون العناية الإلهية يُدرك أن أيَّ كائنٍ مهما صغر، له دورٌ لا يمكن الاستغناءُ عنه."

قلتُ:

"لكن بعضَ الناس يزعمون أن هناك مخلوقاتٍ لا فائدةَ منها، مثل بعضِ الحشراتِ أو الحيواناتِ المفترسة، فيعملون على إبادتها، أليس كذلك؟"


هز الحكيم رأسه قائلاً:

"هذا هو عينُ الجهل بحكمة الخلق! إن الله لم يخلق شيئاً عبثاً، حتى الجراثيم التي نظنُّ أنها بلا فائدة، لها دورٌ في تحليل المواد العضوية، والحشراتُ التي تُبيدُها بعضُ الدولِ بالمبيداتِ كانت تساهمُ في تلقيح الأزهار! بل حتى الذئابُ التي يُبيدها الرعاةُ ظنًّا أنها خطرٌ على ماشيتهم، تؤدي دوراً في الحفاظِ على التوازنِ البيئي بوقفِ انتشارِ الحيواناتِ المريضة والضعيفة!"

قلتُ وقد بدأتُ أستوعب:

"إذن، العبثُ بمكوناتِ البيئة ليس مجرد خطأٍ عابر، بل هو عدوانٌ على حكمةِ الله؟"


أجاب الحكيم بحزم:

"بالضبط! ولو تدبّر الإنسانُ في هذا الكونِ لأدرك أن العنايةَ الإلهيةَ جعلت كلَّ شيءٍ في مكانه بحكمةٍ وإتقانٍ، ومن يعبثُ بهذه المنظومة فإنه يدمر نفسه قبل أن يدمر البيئة."

ارتفع صوت أحد الأطفال مردداً بيتاً من الشعر:

وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ


ساد الصمتُ للحظة، قبل أن أقول:

"لو آمن الناسُ حقًّا بالعنايةِ الإلهية، لما أفسدوا الأرضَ بهذا الشكل. إن الإيمانَ بهذه الحقيقة يجعل الإنسانَ أكثر مسؤوليةً تجاه البيئة."

أومأ الحكيم موافقاً:

"وهذا هو الفارقُ الجوهريُّ بين من يؤمنُ بأن كلَّ شيءٍ في الكونِ محسوبٌ بحكمة، وبين من يرى الطبيعةَ مجردَ مواردَ لا قيمةَ لها إلا بقدر ما تخدم مصالحه. ولهذا كان الإسلامُ هو الحلُّ الأمثلُ لإنقاذ الأرضِ من دمارها."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام