الإسلام والبيئة (24): بين الإنسان والمخلوقات الأخرى: رابطة أعمق مما نتصور!

 

سلسلة الإسلام والبيئة

وسط الدمار الذي يلف الأرض كوشاح من الحداد، تمتد الصحارى الجرداء حيث كانت الغابات، وتموت الأنهار جفافًا حيث كانت تتدفق بالحياة. السماء، التي كانت تنثر النور والرحمة، أضحت ملبدة بغيوم داكنة لا تحمل مطرًا، بل غازات سامة تخنق الأنفاس. لم يعد هناك زقزقة طير عند الفجر، بل صمت ثقيل يملأ الأفق، كأن الطبيعة في حداد على ما اقترفته يد الإنسان من جريمة في حقها. لكن، هل كان هذا الخراب حتميًا؟ أم أن الإنسان قد نسي دوره كشريك في هذا الكون؟

سألت الحكيم، وقد بدت ملامحه شديدة الجدية:

"كيف يمكن للإنسان أن يكون مكرمًا وخليفة، لكنه في الوقت ذاته شريك للمخلوقات الأخرى؟ أليس هو المتفوق عليها جميعًا؟"


ابتسم الحكيم، ثم أشار إلى أحد الأطفال، فبدأ بتلاوة قول الله تعالى:

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]

ثم قال الحكيم:

"نعم، الإنسان مخلوق مُكرّم، لكنه ليس بمعزل عن بقية المخلوقات، بل هو جزء من منظومة خلقها الله بحكمة، وجعل لكل كائن دوره. فالإنسان ليس وحده من يعبد الله، بل تشاركه المخلوقات كلها، كما قال تعالى:

﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]


قلت متعجبًا:

"لكننا نحن الذين نمتلك العقل، أما سائر المخلوقات فلا وعي لها!"

فوجئت بأحد الأطفال يتلو قول الله عز وجل:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44]

ابتسم الحكيم وقال:

"العقل نعمة، لكنه أيضًا أمانة. وإذا كان للإنسان خصوصية بالعقل، فإن ذلك لا يعني أن يهمل حق بقية المخلوقات أو يسلبها وجودها. الإسلام جعل الحفاظ على البيئة جزءًا من المعتقد، واعتبر الإحسان إلى الحيوان والرفق به من الأعمال التي يُثاب عليها الإنسان، فقد قال النبي ﷺ:

"في كل ذات كبد رطبة أجر" (متفق عليه).

وهذا يعني أن كل مخلوق حي له حق على الإنسان، حتى وإن كان لا يعقل كما يعقل هو."


سألت:

"لكن كيف يمكن للإسلام أن يكون سبّاقًا في الحفاظ على البيئة؟"

قال الحكيم:

"الإسلام لم يكتفِ بالوعظ، بل وضع تشريعات واضحة لحماية البيئة. فقد أوجب على من امتلك حيوانًا أن يطعمه، وألزم القاضي بالتدخل إن أهمل صاحبه في رعايته، بل وأعطى القضاء الحق في بيع الحيوان إذا لم يجد من يطعمه. وهذا لا ينطبق على الحيوان فقط، بل حتى على الأشجار، إذ نهى النبي ﷺ عن قطع الأشجار بغير سبب، وأمر بالزراعة حتى لو كان يوم القيامة!"


أشار إلى أحد الأطفال، فبدأ بتلاوة حديث النبي ﷺ:

"إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا" (رواه البخاري).

قلت متأثرًا:

"لكن، هل يمكن أن يعاقب الإنسان بسبب أذيته للحيوانات؟"


أطرق الحكيم رأسه، ثم قال بصوت حزين:

"هل سمعت بقصة الإمام الزمخشري؟ يُروى أنه لما سُأل عن رجله المقطوعة قال أنّه كان يعبث بطائر صغير حتى قطع رجله فمات، فابتلاه الله فقطعت رجله. فهذا الخبر يُفيد أن الزمخشري كان يعتقد جازما أن ما حدث لم يكن مجرد مصادفة، بل عقابًا على إيذاء مخلوق ضعيف. فالله لا ينسى ظلم العباد، حتى لو كان المظلوم طائرًا أو شجرة."

ساد الصمت، بينما كنت أستوعب حجم المسؤولية التي نحملها تجاه كل ما حولنا. أدركت حينها أن الإنسان ليس سيدًا متجبرًا على الأرض، بل هو راعٍ مسؤول، وإن أخلّ بمسؤوليته، فإنه أول من سيدفع الثمن!

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام