الإسلام والبيئة (25): حين تهمس الأرض للإنسان – حكاية العلاقة الأزلية
كان الهواء يعبق برائحة الرماد، كأنّ الأرض تبكي ما فقدته. السهول التي كانت يوماً بساطاً أخضراً تحوّلت إلى صحراء رمادية، والأشجار التي كانت تعانق السماء لم يبقَ منها إلا هياكل محترقة كأنها شواهد قبور. أما الأنهار، فبعضها جفَّ حتى صار مسارات متشققة، وأخرى امتلأت بمخلفات البشر كأنها ترفض أن تكون نبعاً للحياة بعد الآن. وسط هذا المشهد الكئيب، كنا نجلس حول الحكيم، نبحث عن إجابة لسؤال طالما حيَّرني: لماذا صار الإنسان عدواً للأرض التي وهبته الحياة؟
سألتُ الحكيم قائلاً:
– إنهم يقولون إن الإنسان سيد الأرض، فمن حقه أن يستخدمها كما يشاء، أليس كذلك؟
ابتسم الحكيم وهزَّ رأسه قائلاً:
– بل هو خليفة عليها، وليس سيداً متجبراً. الخليفة مؤتمن على ما استُخلِف عليه، وليس مستبداً يفعل ما يشاء. هل قرأت قول الله تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" (طه: 55)؟
أطرقْتُ للحظة، ثم قلت:
– نعم، لكن كيف تؤثر هذه العقيدة على تعاملنا مع البيئة؟
أجاب الحكيم وهو يرمقنا بنظرة عميقة:
– حين يدرك الإنسان أن جسده مصنوع من ذات العناصر التي تتكون منها الأرض، وأنه منها وإليها يعود، لن يعاملها كشيء منفصل عنه، بل كجزء من ذاته. كيف يفسد الإنسان ما هو جزء من كيانه؟
تلا أحد الأطفال بصوت نديٍّ:
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ فاطر: 11
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ المؤمنون: 12
أكمل الحكيم قائلاً:
– هذه العلاقة الحميمة ليست مجرد وصف نظري، بل هي واقع عاشه المسلمون على مدى التاريخ. ألم تسمعوا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين قال: "لو أن دابة عثرت بالعراق، لخشيت أن يسألني الله عنها"؟ لقد فهم أن العناية بالأرض ومخلوقاتها ليست ترفاً، بل مسؤولية أمام الله.
تداخلتُ معه متسائلاً:
– لكن ألا نرى العالم المتقدم اليوم يعمّر الأرض ويستغل مواردها لبناء الحضارات؟
هز الحكيم رأسه بأسف:
– أي إعمار هذا الذي يتجاهل التوازن البيئي ويحوّل الطبيعة إلى عبدٍ مُسَخَّرٍ بلا رحمة؟ فرق بين من يعمّرها بعقل راشد وبين من ينهبها كمنجم لا ينضب. الإعمار الحقيقي هو ذاك الذي يحفظ التوازن بين الإنسان والأرض، بين الإنتاج والاستدامة، بين الحاجة والاعتدال.
تلا طفل آخر آية بترنيم شجيّ:
"وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ" الرحمن: 10
قلتُ بحيرة:
– إذن، كيف يمكننا إعادة بناء هذه العلاقة المفقودة؟
ابتسم الحكيم بحكمة وقال:
– لا بد أن نعيد إلى عقولنا وقلوبنا تلك الحقيقة البسيطة: نحن والأرض شيء واحد. وحين يفهم الإنسان أن كل ذرة في جسده مستمدة منها، لن يفسدها، بل سيرعاها كما يرعى جسده. انظروا إلى الفقه الإسلامي، كيف أمر المسلم بالرفق بالأرض كما يرفق بنفسه! لقد نص الفقهاء على وجوب إطعام الحيوان، والعناية بالزرع، وعدم إفساد المياه، بل حتى عند قطف العسل أوجبوا ترك ما يكفي للنحل كي يبقى حيًا!
تلا الطفل الأخير بيتاً من الشعر بصوت عذب:
وقالت لي الأرض لما سألتُ ... أيا أمُّ، هل تكرهينَ البشر؟
ارتسمت ابتسامة على وجه الحكيم وهو يجيب:
– الأرض لا تكره البشر، لكنها تتألم حين يجحدون فضلها. وحين يظنون أنهم أقوى منها، تأتيهم رسائلها عبر الكوارث والمحن. آن الأوان لنستمع لهمسها قبل أن تصرخ في وجهنا بالدمار.
ساد صمت مهيب، وكأننا لأول مرة نسمع صوت الأرض. نعم، لقد كانت تتحدث طوال الوقت، لكننا لم نكن نسمع.
Comments
Post a Comment