الإسلام والبيئة (26): علاقة الإنسان بالقمر وبقية الجمادات – رابط مقدس بين المخلوقات

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كان المكان مهيبًا، تتناثر فيه أطلال الحضارات البائدة، أبنيةٌ خاوية وأرضٌ متشققة، وكأنها تئن من جور الإنسان الذي أهملها واستنزف مواردها. السماء تبدو غائمة، يخترقها ضوء القمر الشاحب، الذي بدا وكأنه يتفقد الأرض بحزن، كمن يشهد انهيار صديق عزيز. في هذا العالم الذي فقد صلته بالطبيعة، وقف الحكيم وسط الأطفال، وأنا أنظر إليه متسائلًا عن سر هذا المشهد الكئيب.

سألت الحكيم:

"لمَ يشعر الإنسان اليوم بالغربة عن هذا العالم؟ أليس القمر مجرد جرم في السماء، والجمادات كتل صماء بلا روح؟"


ابتسم الحكيم وقال بصوت هادئ:

"هذه النظرة المادية البحتة، هي التي أفسدت علاقة الإنسان بمحيطه. الإسلام لم ينظر إلى الكائنات من زاوية مادية باردة، بل ربط الإنسان بها برابط العبودية المشتركة لله. حتى القمر، ذلك الجرم البعيد، له علاقة وطيدة بنا."

قال أحد الأطفال بتلاوة ندية:

 "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" يونس: 5.


قلت بدهشة:

"لكن كيف نربط أنفسنا بالقمر؟ إن ثقافة الغرب علمتنا أنه مجرد جرم سماوي يدور حول الأرض، ليس له أثر علينا إلا من الناحية الفلكية."

ضحك الحكيم وقال:

"وهل يضر القمر شيئًا إن حصره الغرب في حسابات مادية؟ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد" (رواه أبو داود). أتدري ما معنى ذلك؟"


أجبته:

"كأن النبي يخاطبه مباشرة! لكن كيف يخاطب شيئًا لا يعقل؟"

تنهد الحكيم ثم أجاب:

"هذه المناجاة النبوية تُعبر عن علاقة الإنسان بكل مكونات الكون، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير القمر مجرد جرم بارد، بل مخلوقًا مربوبًا يسير بأمر الله. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "ربي وربك الله"؟ إنه إعلان واضح لوحدة العبودية، التي تجمع الإنسان بكل شيء حوله."


قال طفل آخر بصوت مؤثر:

"تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" الإسراء: 44.

سألت الحكيم مندهشًا:

"إذن، هل الجمادات تُسبّح؟ هل يعني هذا أن علاقتنا بها ليست مجرد انتفاع مادي؟"

أجاب الحكيم بثقة:

"بالطبع! لم يكن الإسلام ماديًا في نظرته للكون، بل علّمنا أن لكل شيء حولنا حياةً خاصة، وإن لم ندرك حقيقتها. خذ مثلًا جبل أُحد، ألم يقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا جبل يحبنا ونحبه" (رواه البخاري)؟ إن رسول الله كان يعبر عن علاقة وجدانية بين الإنسان والجماد، علاقة محبة ومودة."


لم أفهم ما يعنيه فصحت متسائلا:

"لكن كيف يحب الجبل؟ إنه مجرد صخر!"

لم يستطع الحكيم إخفاء ضيقه وهو يقول:

"هذا هو عين المشكلة، أن تفهم الأشياء بمقاييس مادية باردة! ألم تسمع عن حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله قبل أن يُصنع له المنبر؟ عندما انتقل إلى المنبر، بكى الجذع حتى سمع الصحابة أنينه، فاحتضنه النبي حتى هدأ (رواه البخاري).


قلت متأثرًا:

"يبدو أننا نسينا هذه العلاقات، فصرنا نعامل كل شيء بجفاء وجمود."

لاحت على وجهه علامات حزن شديدة وهو يقول:

"هذا صحيح، والنتيجة أننا دمّرنا الأرض، وأفسدنا علاقتنا بمخلوقات الله، حتى فقدنا تلك الألفة بيننا وبين الكون كله."


استعاد الحكيم ابتسامته وهو ينظر إلى القمر قائلًا:

"إذا استعدنا هذا الفهم العميق، سنعيد علاقتنا مع البيئة كلها، وستعود الحياة إلى كوكبنا، كما تعود الروح إلى الجسد."

رفعت بصري إلى السماء، كان القمر يسطع في عليائه، وكأنما يبتسم لنا، بعدما أدرك أن هناك من بدأ يفهم رسالته من جديد.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام