الإسلام والبيئة (27): التكاليف الشرعية ومسؤولية الإنسان عن مكونات الكون
كان المشهد قاتمًا... سماء معتمة تخترقها أضواء شاحبة من مصانع هائلة تلفظ دخانها الأسود في صمت جنائزي، كأن الأرض تحتضر بين أنقاضها. الأشجار ذابلة، تتكئ على جذوع محترقة، والهواء مثقل بروائح كيميائية نفاذة. تحت أقدامنا، تكسرت التربة فصارت شظايا يابسة، كأنها تصرخ من العطش والإهمال. كنا نسير وسط هذه الخرائب، حيث لم يبقَ شيء يعكس جمال الطبيعة إلا ذكريات محبوسة في ذاكرة الأحجار والنباتات المنقرضة.
سألت الحكيم، وعيناي تجولان في هذا الدمار:
"هناك حديث يدعوا فيه النبي ﷺ إلى قتل بعض الحيوانات. هل هذا صحيح؟"
نظر إلي الحكيم بتروٍّ، ثم قال:
"أجل. فقد قال رسول الله ﷺ: (خمس من الدواب كلهن فاسق يُقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور)".
تسائلت:
"ولم هذا؟"
أجابني الحكيم بهدوء:
"هذه الدواب المأذون بقتلها منها القاتل بطبيعته كالعقارب والثعابين السامة، ومنها ما يشكل خطرا على محاصيل الإنسان وثروته، وما بيده من الحيوانات، ومنها الحدأة والفأرة، وقد ألحق الفقه بهذه الحيوانات كل ما كان فيه خطر على الإنسان".
وقبل أن أُبدي رأيي استطرد الحكيم قائلا:
"ولكنّ الفقهاء قد وضعوا ضوابط دقيقة تمنع الإنسان من العبث بالمخلوقات إلا عند الحاجة. ففي هذا الحديث نرى أن القتل لم يُبح إلا عند الضرورة، ولم يُطلق الأمر عبثًا. بل حتى هذه الدواب لا تُقتل إلا إن شكّلت خطرًا مباشرًا، وإلا تُركت في بيئتها حيث تتوازن مع باقي المخلوقات."
ثم نظر إلىّ الحكيم وقال:
"أتعلم أن الإسلام ألزم الإنسان بالمحافظة على مكونات البيئة حتى في أحلك الظروف؟"
قلتُ مستغربًا:
"وكيف يكون ذلك؟"
أجابني الحكيم بحزم هذه المرة:
"نهى النبي ﷺ جيوشه عن تدمير الطبيعة، ففي
وصيته لجيوش المسلمين قال:
(ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأةً، ولا شيخًا
كبيرًا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناءً. (
وهذا دليل على أن حتى في أصعب الظروف،
كالحروب، لا يجوز الإضرار بمكونات البيئة، بل يجب الحفاظ عليها."
توقف الحكيم لحظات لأخذ أنفاسه قبل أن يتابع:
"كما أنّ رسول الله ﷺ قد نهى عن قتل أربع: النملة والنحلة والهدهد والصرد (نوع من الطيور)، لأنها جزء من منظومة الحياة التي خلقها الله بحكمة. والنبي لم يكن بحاجة إلى علماء بيئة ليخبره أن كل كائن يؤدي دورًا في التوازن الكوني".
قلت متأملًا:
"لكن يا شيخ، أليس العالَم اليوم مليئًا بالجمعيات البيئية التي تحمي الحيوانات؟"
أجاب الحكيم بحزم:
"نعم، ولكنهم يحمون البيئة بعد أن أفسدوها! أما الإسلام، فقد سبقهم جميعًا، فجعل حماية البيئة تكليفًا شرعيًا، وليس مجرد اختيار أو ترف فكري! فالإسلام لا يرى الحفاظ على البيئة خيارًا أخلاقيًا بل مسؤولية أمام الله.
سكتُّ وأنا أسترجع حديثه، ثم قلت:
"إذن، البيئة ليست مجرد موارد نأخذها متى شئنا، بل هي أمانة مرتبطة بمصيرنا في الدنيا والآخرة؟"
قال الحكيم:
"نعم، ولنتذكر دومًا أن الكون ليس ملكًا لنا، بل نحن مستخلفون فيه، وكل اعتداء عليه هو اعتداء على أنفسنا."
Comments
Post a Comment