الإسلام والبيئة (29): حين رحل الحيوان.. وانكسر ميزان الحياة
كانت الأرض تمتد أمامي كجثة هامدة، لا أثر فيها لحياة سوى الرياح الهائمة التي تعوي بين الأبنية المتهالكة. لم يعد هناك نباح كلاب، ولا تغريد طيور، ولا صوت لقطيع ماشية يسير في الأفق. مجرد صمت ثقيل، كأن العالم نفسه يعاني سكرات الموت.
سألت الحكيم وأنا أشعر بالقشعريرة تزحف إلى
روحي:
— هل تتخيل كيف ستكون الحياة لو لم يكن للحيوان
وجود أصلاً؟
ابتسم الحكيم ابتسامة خفيفة، ثم أشار بيده إلى
الفراغ حولنا وقال:
— أنت لا تحتاج إلى التخيل، أنت ترى النتيجة بأم
عينيك.
تقدّم أحد الأطفال بخطوات حذرة، ثم سأل ببراءة:
— لكن لماذا خلق الله هذه الحيوانات إذا كنا
نستطيع العيش بدونها؟
أجاب الحكيم وهو يمسح على رأس الصبي:
— بل لا نستطيع العيش بدونها يا بني.
الإنسان لم يكن يومًا مستقلاً عن باقي المخلوقات، بل كان دائم التعلم منها. هل
تذكرون قصة الغراب؟
رفع أحد الأطفال يده بحماس وقال:
— نعم! حين قتل قابيل أخاه هابيل ولم
يدرِ ماذا يفعل بجثته، بعث الله غرابًا ليُريه كيف يواري سوأة أخيه. قال تعالى:
"فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ
فِى ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ
يَٰوَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَٰرِىَ
سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ" المائدة: 31
هزّ الحكيم رأسه وقال:
— أحسنت! لقد كان الغراب معلمًا لأول إنسانٍ على
وجه الأرض في أبسط أمور الحياة، وهو دفن الموتى. أتعلمون أن الإنسان لم يكن
ليستطيع البقاء على قيد الحياة لولا ما تعلمه من الحيوانات؟
تقدّمت وسألت الحكيم:
— ولكن نحن اليوم لدينا العلم
والتكنولوجيا، فهل ما زلنا بحاجة إلى الحيوانات؟
أجابني بهدوء:
— قل لي، كيف اكتشف البشر المضادات الحيوية؟
فكرت للحظة ثم قلت:
— من خلال البكتيريا والفطريات.
ابتسم الحكيم وقال:
— وماذا عن أسرار الطيران؟ هل تعلم أن المسلمين
كانوا ينظرون إلى الطيور ليتعلموا منها قوانين التحليق في السماء؟ قال الله تعالى:
"أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍ وَيَقْبِضْنَ ۖ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ ۚ
إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍۢ بَصِيرٌ"
الملك: 19
قاطعه أحد الأطفال قائلاً:
— والهدهد كان رسولًا بين سيدنا سليمان وملكة سبأ!
ضحك الحكيم وقال:
— أحسنت! حتى في عالم الممالك والسياسة، كان
للحيوان دور في إيصال الرسائل وكشف الحقائق. وأخبروني، ماذا تعلّم البشر من النحل؟
أجاب طفل آخر:
— النحل يعلّمنا العمل الجماعي والنظام! وقد ذكره
الله في القرآن وقال:
"وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ
أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًۭا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" (النحل:
68).
نظر الحكيم إليّ وقال:
— أرأيت؟ كل كائن حيّ على هذه الأرض له وظيفة،
ومهما تطوّر العلم، فإنه لن يستغني عن دروس الطبيعة. حتى اليوم، البشر يتعلمون من
الكلاب البوليسية كيف يلتقطون الروائح، ومن العناكب كيف يصنعون خيوطًا أقوى من
الفولاذ، ومن القطط كيف تقفز دون أن تتأذى.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم قلت:
— إذن، لو استمر الإنسان في تدمير الحياة البرية
وإبادة الحيوانات، فهو لا يدمر الطبيعة فقط، بل يدمر نفسه!
هزّ الحكيم رأسه قائلاً:
— أحسنت. فقد كان الإسلام منذ البداية يحثنا على
حفظ هذا التوازن، لأن فقدان أي جزء من هذه المنظومة يعني اختلال الكون بأسره.
نظرت إلى الخراب الذي يحيط بنا، وتخيلت كيف كانت الأرض يومًا تعج بالحياة، وكيف كان الإنسان ينظر إلى الحيوان نظرة شراكة لا استغلال. شعرت بمرارة، ولكن في داخلي اشتعل أمل جديد… لا يزال هناك وقت لإعادة بناء هذا الميزان المنكسر.
Comments
Post a Comment