فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (2): إعداد الداعية

 

سلسلة فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على إمام الدعاة وقدوة الهداة، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد،

حين نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة في غار حراء، كانت لحظة فاصلة غيّرت مجرى التاريخ، وانطلق منها نور الهداية ليعم الأرض. لكن، قبل أن يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، جاء القرآن ليُعِدّ قلبه ونفسه لهذه المهمة العظيمة، وليرسم لنا، من خلال إعداد النبي، ملامح الداعية الصادق في كل زمان ومكان.

إن الآيات السبع الأولى من سورة المدثر كانت توجيهات إلهية مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الوقت ذاته دستور لكل داعية إلى الله:

  1. "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنذِرْ": هذا النداء اللطيف يشير إلى مسؤولية القيام للدعوة، فليس من صفات الداعية أن يكون خاملاً أو متخاذلًا، بل هو يقظ، مُستنهض للهمم، يُحرك القلوب بصدق وإنذار. في واقعنا اليوم، ينبغي للداعية أن يكون مستعدًا لمواجهة التحديات، متيقظًا لحجم المسؤولية.
  2. "وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ": توجيه بإعلاء شأن الله وتوحيده، فالداعية ينطلق من إخلاصه لله، بعيدًا عن حظوظ النفس والرياء. في زمن تضخمت فيه الأنا وصار الناس يعظمون الذات، ينبغي أن تكون رسالة الداعية مركزة على تكبير الله في القلوب وإحياء معاني العبودية الخالصة.
  3. "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ": ليس المقصود هنا مجرد نظافة الثوب، بل نقاء القلب وصفاء السريرة من شوائب الرياء والنفاق. الداعية الصادق من يتطهر قلبه قبل ثيابه، فلا يكون داعيًا إلى الله وهو غارق في الشبهات أو الشهوات.
  4. "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ": الابتعاد عن الشرك وكل ما يغضب الله، والمقصود كذلك هجران الباطل وأهله. على الداعية أن يكون نقيًا في معتقده، متجنبًا شبهات الفكر المنحرف، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل.
  5. "وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِر"ُ: لا تمنَّ على الناس بعملك، ولا تنتظر منهم الجزاء والشكر، بل اجعل عملك خالصًا لوجه الله. في عصرٍ يكثر فيه التسويق للذات، على الداعية أن يحذر من أن تكون دعوته وسيلة للشهرة أو المصالح الشخصية.
  6. "وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ": الصبر على أذى الناس، وتحمل التحديات والابتلاءات. الدعوة تحتاج إلى نفسٍ طويل، ومثابرة دون كلل، وهذا ما يحتاجه دعاة اليوم في مواجهة حملات التشويه والتضليل.

هذه التوجيهات الإلهية كانت كفيلة بتأسيس شخصية داعية صلبة، ثابتة أمام طوفان الباطل، صامدة في وجه المِحن. وسنواصل في المقالات القادمة التفصيل في كل صفة بشكل أعمق، لنستخلص منها الدروس والعبر.

نسأل الله أن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله على بصيرة، وأن يُلهمنا الصواب في القول والعمل.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام