الإسلام والبيئة (30): حين توقفت عجلة الحياة: كيف ساهم الحيوان في صنع الحضارة؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كنت أسير وسط أطلال مدينة عظيمة، شوارعها مليئة بالهياكل الصدئة لمركبات لم تعد تعمل، ورافعات متوقفة عن الحركة كأنها هياكل عظمية لعمالقة سقطوا في معركة الحياة. لا خيول تعدو، لا إبل تجر القوافل، ولا طيور تحلق في السماء. المدينة ميتة، كأنّ روحها قد انتُزعت مع آخر كائن حي وطأت قدمه هذه الأرض.

سألت الحكيم، وأنا أنظر إلى هذا المشهد الكئيب:
كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف كانت الحضارات تُبنى ثم تنهار؟

تنهد الحكيم وقال:
عندما نسي الإنسان من كان شريكه في بناء هذه الحضارة، وعندما ظن أنه وحده قادر على حمل أعباء التقدم. أخبرني، كيف كان الإنسان يسافر عبر الصحاري قبل أن يعرف القطارات والطائرات؟


تقدّم أحد الأطفال وقال:
على ظهور الإبل! فقد سمّاها العرب سفينة الصحراء لأنها كانت تحملهم عبر الفيافي والمفاوز، بل إنها كانت سببًا في ازدهار التجارة بين الشرق والغرب.

ابتسم الحكيم وقال:
صحيح. قال الله تعالى:
"
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍۢ لَّمْ تَكُونُوا۟ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ" النحل: 7


ثم التفت إليّ وسألني:
هل تعلم أن تدجين الحيوانات كان أعظم إنجاز بشري على الإطلاق؟

أجبت مترددًا:
ربما… لكن أليس اختراع العجلة أو بناء المدن أكثر أهمية؟

هزّ الحكيم رأسه قائلاً:
العجلة؟ وكيف كان لها أن تتحرك دون حصان أو ثور يجرّها؟ المدن؟ وكيف كانت القوافل تنقل البضائع من مدينة إلى أخرى لولا الإبل والحمير والبغال؟ الحضارات لم تُبنَ بالطوب فقط، بل بجهود الحيوانات التي ساندت الإنسان منذ فجر التاريخ.


قاطعه طفل آخر بحماس:
وأيضًا الجيوش! الفتوحات الإسلامية لم تكن لتتحقق لولا الخيول القوية التي حملت المجاهدين عبر الصحارى والسهول، فمكنتهم من نشر العدل والإسلام في كل بقاع الأرض.

ابتسم الحكيم وقال:
أحسنت يا بني! بل حتى في قصص الأنبياء، نجد الحيوان حاضرًا في أدق اللحظات، فقد كان الفيل سببًا في فضح جيش أبرهة عندما أبت الفيلة أن تدمر الكعبة، وقال الله فيهم:
"
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَٰبِ ٱلْفِيلِ" الفيل: 1


ثم نظر إليّ وسألني:
والآن، قُل لي، متى بدأ الإنسان في فقدان هذا التوازن بينه وبين الحيوان؟

أجبت بعد تفكير:
عندما ظن أنه لم يعد بحاجة إليه، عندما اخترع المحركات والآلات فاستغنى عن الدواب، وعندما تحوّلت علاقته بالحيوان من شراكة إلى استغلال.

هزّ الحكيم رأسه بأسى وقال:
نعم، وعندما بدأ يُفني الحيوان بلا سبب، ويذبحه من أجل الترف، ويحتقر قيمته في الحياة، بدأ الميزان يختل. أتعلم أن الحضارات الإسلامية القديمة كانت تهتم برفاهية الحيوان مثلما تهتم برفاهية الإنسان؟


رفع طفل يده وقال:
نعم! كان هناك مستشفيات لعلاج الحيوانات في الأندلس وبغداد، بل إن بعض الخلفاء وضعوا قوانين لمعاقبة من يؤذي الحيوان بغير حق.

ابتسم الحكيم وقال:
أحسنت! ولهذا ازدهرت الحضارة الإسلامية، لأنها فهمت أن التقدم لا يكون على حساب الطبيعة، بل بالتناغم معها. ولكن عندما انحرف الإنسان عن هذا الفهم، بدأ السقوط… وها نحن نعيش في عالم لم يعد فيه للحيوان مكان، ولم يعد فيه للحضارة روح.


نظرت إلى المباني المتهالكة من حولي، وتخيلت قوافل الإبل وهي تعبر الصحراء، وخيول الفرسان وهي تنطلق في الميادين، ودواليب الطواحين وهي تدور بطاقة الثيران… أدركت حينها أن الحضارة ليست مجرد إسمنت وحديد، بل روح تشارك فيها كل المخلوقات، وحين يُقتل الحيوان، تموت الحضارة معه.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام