الإسلام والبيئة (32): حين يُقتص للحيوان: كيف جعل الإسلام الرحمة بالحيوانات مقياسًا للإنسانية؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كان المكان أشبه بمقبرة عملاقة، لكنها ليست للبشر، بل لحيوانات انقرضت أو أوشكت على الفناء. هياكل عظمية متناثرة هنا وهناك، جلود ممزقة، وأجنحة طيور تحولت إلى أشلاء، بينما الهواء مشبع برائحة العفن واليأس. كانت الأرض جرداء، صامتة، لا صوت فيها سوى أزيز الرياح التي تدور في دوامة من الغبار والرماد، كأنها تروي قصة الفناء البطيء الذي جلبه الإنسان على شركائه في الحياة.

وقفت مشدوهًا أمام هذا المشهد، وفي داخلي سؤال يحترق:

"كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الحد؟ كيف تحولنا إلى مخلوقات لا ترحم؟"


سمعت صوت الحكيم من خلفي، هادئًا لكنه يحمل نبرة عتاب عميقة:

"ألم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض؟ ألم يقل أن الله غفر لبغي من بني إسرائيل لأنها سقت كلبًا كاد يهلك من العطش؟"

قاطعه أحد الأطفال، متحمسًا وهو يردد الحديث:

"بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها، فاستقت به، فسقته إياه فغفر لها به."


توقفت عند الحديث، متأملًا:

"لكن لماذا كل هذا الاهتمام بالحيوان؟ أليس الإنسان هو المكرّم وهو الأهم؟"

ابتسم الحكيم بحكمة العارف، وقال:

"بل إن الإسلام يعلّمنا أن الرحمة بالحيوان هي مقياس لإنسانيتنا نفسها. هل تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله يقتص للشاة الجمّاء من القرناء يوم القيامة؟ أي أن العدل لا يستثني حتى الحيوانات، رغم أنها غير مكلّفة! فكيف إذن بالإنسان الذي يؤذي الحيوان عمدًا؟"


تساءلت باندهاش:

"لكن ماذا عن قوانين الرفق بالحيوان في عصرنا الحديث؟ ألم تؤسس دول كثيرة جمعيات لحمايته؟"

أجاب الحكيم بأسف:

"قوانين اليوم تنظر إلى الحيوان كسلعة اقتصادية أو كائن تجريبي، أما في الإسلام، فالحيوان شريك للإنسان في هذا العالم، وله حقوق ثابتة، بعضها يصل إلى حد العقوبة الأخروية لمن ينتهكها. هناك فرق شاسع بين من يضع قانونًا لحماية الحيوان بدافع المنفعة، ومن يوقن بأن الرحمة بالحيوان هي قربى إلى الله."


علّقت بإعجاب:

"إذن، الإسلام لا يرى في الحيوان مجرد أداة لخدمة الإنسان، بل شريكًا في الحياة يجب الحفاظ عليه؟"

هزّ الحكيم رأسه موافقًا:

"تمامًا، ولذلك لم يقتصر الإسلام على تحريم إيذاء الحيوان، بل وضع قواعد تفصيلية لضمان حسن معاملته، من توفير الطعام له، ومنعه من الإجهاد فوق طاقته، وحتى الأمر بالرفق به عند ذبحه."


قاطعه أحد الأطفال، وكأنه تذكر أمرًا مهمًا:

"أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"."

ابتسم الحكيم بحنان، وقال:

"أحسنت يا بني، وهل تعلمون أن بعض الخلفاء المسلمين أنشؤوا أوقافًا لإطعام الطيور في الشتاء، ولعلاج الحيوانات المصابة؟ بل إن في بعض المدن الإسلامية القديمة، كانت هناك مستشفيات خاصة بالحيوانات، وكان الناس يتصدقون على القطط والكلاب الضالة."


ساد الصمت للحظة، ثم قلت للحكيم:

"لكننا اليوم نعيش في عالم يتحدث عن حماية البيئة، ومع ذلك نجد الحيوانات تنقرض، والغابات تُدمّر، والإنسان يسحق كل شيء لتحقيق مكاسبه المادية. ما الفارق بين رؤيتنا الإسلامية وبين ما يدعو إليه العالم الحديث؟"

نظر إلي الحكيم نظرة عميقة، ثم قال:

"الفرق يا بني أن الإسلام يجعل علاقتنا بالحيوان مسؤولية أمام الله، وليست مجرد مسألة قوانين وضعية. حين يكون الحافز هو رضا الله، فإن الإنسان يرحم حتى لو لم يره أحد، أما حين يكون الحافز هو القانون، فإنه يلتزم فقط إذا كان هناك من يراقبه. لهذا السبب، رغم كل القوانين الحديثة، ما زالت البيئة تتدهور والحيوانات تنقرض."


هززت رأسي مقتنعًا، ثم نظرت إلى المكان من حولي، إلى تلك الأرض التي كانت يومًا نابضة بالحياة، قبل أن يحل عليها دمار الإنسان.

سألت بصوت خافت:

"هل يمكن أن يعود كل شيء كما كان؟"

نظر إلي الحكيم نظرة كلها أمل، ثم قال:

"حين يعود الإنسان إلى فطرته، وحين يدرك أن الرحمة بالحيوان ليست مجرد فضيلة، بل طريق إلى رحمة الله، عندها فقط سيُبعث هذا العالم من جديد."


كان في صوته يقين لم أعهده من قبل، وكأن كلماته كانت بريق النور الوحيد في هذا العالم المظلم.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام