الإسلام والبيئة (35): فقه الرحمة: كيف جعل الإسلام حماية الحيوان جزءًا من العقيدة؟

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كنت أسير وسط مدينة غريبة، لم تكن أشجارها خضراء، بل أشجارٌ صناعية من الحديد والأسلاك، ولم يكن فيها طيورٌ تحلق في السماء، بل كانت تُعرض في أقفاص زجاجية كنماذج من ماضٍ انقرض. توقفت عند إحدى الشاشات الضخمة التي كانت تعرض إعلانًا عن "أحدث ابتكارات اللحوم الصناعية"، ثم نظرتُ إلى حوض ماء ضخم، حيث كانت بعض الأسماك تسبح فيه ببطء، لكنها لم تكن كائنات طبيعية، بل نماذج روبوتية تحاكي الحركة فقط.

أردتُ أن أرى أثر البشر في الطبيعة، لكني لم أجد شيئًا حيًا، كأن الحياة الحقيقية غادرت هذا المكان. التفتُّ إلى الحكيم وقلت:

"أين ذهبت الطيور والحيوانات؟ لماذا اختفت؟!"


أجابني بصوت يملؤه الأسى:

"لأن الإنسان لم يحفظ الأمانة، لم يفهم أن الحياة ليست له وحده، بل للدواب والطير وكل كائن خلقه الله لحكمة."

قلت متسائلًا:

"لكن هناك جمعيات لحماية الحيوان، وهناك قوانين تجرّم الصيد الجائر وإيذاء المخلوقات!"


ضحك الحكيم بحزن وقال:

"أخبرني، كيف يرفعون شعارات حماية الحيوان، ثم يباركون مصارعة الثيران؟ كيف يبكون على كلبٍ جائع، لكنهم يذبحون مئات الأبقار فقط لإنتاج الجلود الفاخرة؟ هذه القوانين والشعارات فارغة، لأنها ليست نابعة من عقيدة، بل مجرد ردود أفعال وقتية."

تنهد ثم تابع قائلاً:

"في الإسلام، الحيوانات ليست مجرد كائنات خُلقت لخدمة الإنسان، بل هي أمم لها نظامها، وهي تُحاسب يوم القيامة."


سألته مجددًا:

"لكن هل للإسلام أحكام فعلية تحمي الحيوان؟"

أجاب الحكيم وهو يشير بيده إلى الأفق:

"ألا تعلم أن الإسلام جعل الحرم المكي أول محمية طبيعية في التاريخ؟ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفر صيده..." (رواه البخاري ومسلم). فلا يجوز صيد الطيور أو الحيوانات فيه، ولا حتى إيذاؤها أو إزعاجها!"


قال أحد الأطفال:

"وهذا يفسّر لماذا نرى الطيور تُحلّق بحرية في مكة ولا تخشى الناس!"

أومأ الحكيم برأسه وقال:

"ليس هذا فقط، بل حتى لو اصطدتَ حيوانًا خارج مكة، لا يجوز لك أن تُدخله الحرم، بل يجب أن تطلق سراحه قبل أن تدخل."


تدخلتُ بسؤال جديد:

"لكن ماذا لو أن شخصًا قتل حيوانًا وهو محرم؟"

أجاب الحكيم بجدية:

"أوجب الله على من يقتل صيدًا وهو مُحرم أن يُكفّر عن ذلك، فقال تعالى:
"
وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ" (المائدة: 95). أي أنّ عليه أن يعوّض ذلك بصدقة أو صيام، حتى يعلم أن قتل الحيوان ليس أمرًا هينًا."


قلت متأملًا:

"إذن، الفقه الإسلامي لا يتعامل مع الحيوانات بعاطفة فقط، بل يجعل حمايتها جزءًا من الدين نفسه!"

ابتسم الحكيم وقال:

"وهذا هو الفرق بين قوانين البشر وبين شريعة الله. الإنسان يضع القوانين، ثم ينتهكها متى شاء، أما المؤمن، فهو يرى في كل كائن أمانة، يخشى أن يسأله الله عنها يوم القيامة."


رفعت بصري إلى السماء، متسائلًا:

"هل سيأتي يوم يعود فيه البشر إلى الفطرة، فيحترمون الحياة بكل أشكالها؟"

نظر إليّ الحكيم بحكمة وقال:

"حين يفهمون أنّ الرحمة بالحيوان ليست رفاهية، بل اختبار لإنسانيتهم وإيمانهم."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام