الإسلام والبيئة (37): الرفق بالحيوان: كيف صار العالم بلا رحمة؟
مشيت وسط مدينة هادئة، لكنها لم تكن هدوءًا مألوفًا. كان صمتًا مخيفًا، وكأن العالم فقد أنفاسه الأخيرة. لا زقزقة طيور، لا نباح كلاب، لا خوار أبقار... لا صوت لأي مخلوق غير البشر. مررت بجوار سوق اللحوم، كان الجزارون يقطعون الذبائح بلا اكتراث، والدماء تتدفق في المجاري كما لو كانت مشهدًا عاديًا من الحياة اليومية.
وقفتُ بجوار الحكيم وهمست:
"أين ذهبت الحيوانات؟"
نظر إليّ بعينين حزينتين وقال:
"لقد عاملها البشر كأدوات، لا كأرواحٍ أودعها الله بينهم، فاختفت... كان الناس يُعذّبونها، يُحمّلونها ما لا تطيق، يَقتلونها دون رحمة، وحين جفّت الأرض ولم يعد فيها حيوان، أدركوا أنهم كانوا يقتلون أنفسهم أيضًا."
سألته:
"لكن أليس البشر بحاجة إلى الحيوانات؟ ألا يعتمدون على لحومها وألبانها في غذائهم؟"
أجاب الحكيم:
"بلى، ولكن الإسلام علّمنا أن حاجتنا إليها لا تبرر ظلمنا لها، بل إن النبي ﷺ أوصى بالرفق بها في كل حال. هل تعلم أنه قال لسوادة بن الربيع: "مُر بنيك أن يقلّموا أظافيرهم أن يوجعوا أو يعبطوا ضروع الغنم"؟ حتى في حلبها، أمر بالرفق، فما بالك في معاملتها عامة؟"
سألت الحكيم:
"لكن حتّى في الحضارات الحديثة، مازلنا نرى حيوانات كثيرة تُستخدم في الحمل والعمل، أليس هذا طبيعيًا؟"
أجاب الحكيم:
"لكن هل يتذكرون أنها مخلوقات حية؟ الإسلام لم يمنع استخدام الحيوان، لكنه حرّم تحميله ما لا يطيق. حتى عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه في مصر: "إنه بلغني أنكم تحملون على الإبل ألف رطل، فلا أسمعن بعد اليوم أنكم تحملون أكثر من ستمائة!" كان الإسلام يضع لكل شيء حدًا، فلا ظلم، لا قسوة، ولا استغلال."
قلت بتأمل:
"لكن ماذا عن ذبح الحيوانات؟ ألا يتألم الحيوان عند الذبح؟"
ابتسم الحكيم وقال:
"انظر إلى الفرق بين ذبح وفق شرع الله، وذبح وفق هوى البشر. في الإسلام، أمرنا النبي ﷺ أن نحسن الذبح، فقال: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة". أتدري كيف؟"
أجبته:
"بالسكاكين الحادة، حتى لا يتألم الحيوان."
هز رأسه وقال:
"ليس هذا فقط. حين يُذبح الحيوان بطريقة صحيحة، يُقطع الودجان، وهما أقرب الأجزاء إلى الدماغ. حينها، يندفع الدم للخروج بسرعة، فيفقد الحيوان وعيه قبل أن يشعر بالألم، ويموت بهدوء. ولهذا نهى مالك عن ذبح الحيوانات أمام بعضها، لأن في ذلك ترويعًا لها."
قال أحد الأطفال بحماسة:
"وحتى بعد الذبح، لا يجوز سلخ الحيوان أو تقطيعه إلا بعد أن تفارق روحه جسده بالكامل!"
تأمّلتُ كلامهم، ثم نظرتُ إلى ذلك السوق الذي فُقدت فيه الرحمة، وقُلت بحسرة:
"كأنّ العالم فقد إنسانيته حين فقد الرفق بالحيوان!"
قال الحكيم وهو يشير إلى الآفاق البعيدة:
"بل فقد كل شيء... فالرحمة التي نمنحها للحيوانات، تعود إلينا، وإن سلبناها منها، فإننا نسلبها من قلوبنا أيضًا."
Comments
Post a Comment