الإسلام والبيئة (38): حين يتحدث النبات: كيف يشبّهنا القرآن بالأشجار؟
كانت السماء ملبدة بالغيوم الثقيلة، والشمس بالكاد تتسلل أشعتها بين الشقوق المتآكلة في البنايات المهجورة. الأرض كانت كأنها فقدت روحها، بلا خضرة، بلا ظل، بلا حياة. مررنا بأطلال غابةٍ كانت يومًا ما تعجُّ بالأشجار، والآن لم يبقَ منها إلا جذوع يابسة وأغصان ميتة متناثرة كعظام مهملة.
نظرت إلى الحكيم وسألته:
"كيف وصلنا إلى هنا؟ أين الأشجار؟ أين النخيل والزهور والحقول الممتدة؟"
تنهد الحكيم وأجاب:
"عندما ظنّ الإنسان أنه سيد الكون بلا مسؤولية، وأن له الحق في اجتثاث كل شيء لمصلحته، نسي أنّ الأشجار لم تكن مجرد ديكورٍ أخضر، بل كانت روحه التي تغذي حياته، تنقي هواءه، وتمنحه ظلاً وأملاً."
أحد الأطفال، وقد جلس على صخرة وسط بقايا أوراقٍ جافة، تلا بصوت حزين:
﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ نوح: 17-18
تأملت الآية وقلت متفكرًا:
"لكن هذه الآية تتحدث عن البشر، أليس كذلك؟"
ابتسم الحكيم وقال:
"وهنا يكمن الإعجاز، لقد شبّه الله خلق الإنسان بالنبات! وكأنه يقول لنا: أنتم مثل الأشجار، خرجتم من الأرض وستعودون إليها. أنتم تنبتون وتنمون كما ينمو الزرع، وكلما تمسكتم بجذوركم، كنتم أكثر ثباتًا واستقامةً في الحياة."
سألتُ وأنا أنظر إلى شجرة محطمة على جانب الطريق:
"لكن لماذا هذا التشبيه بالذات؟ لماذا يشبهنا الله بالنبات؟"
قال الحكيم:
"لأن في هذا التشبيه حكمة عظيمة. تأمل النباتات، كيف تحتاج إلى الماء والضوء، وكيف تنمو جذورها في أعماق التربة، وكيف لا تعيش بلا أرضها. كذلك الإنسان، يحتاج إلى الإيمان والعلم لينمو، ويحتاج إلى أن يكون متجذرًا في الخير، وإلا ذبل وسقط."
قال أحد الأطفال بحماسة:
"حتى النبي ﷺ كان يشبّه الإنسان بالأشجار! ألم يقل لأصحابه يومًا: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟" وحين عجزوا عن الجواب، قال لهم: "هي النخلة"؟"
ابتسم الحكيم وقال:
"أحسنت! النخلة شُبِّهت بالمسلم لأنها دائمة العطاء، لا تيبس أوراقها بسهولة، تعطي ثمارها في أوقاتها، ولا ترد الإساءة بمثلها. حتى إن الناس يقذفونها بالحجارة، لكنها تلقي إليهم أحلى الثمار، كما يفعل الإنسان الطيب الذي لا يرد الأذى بالأذى."
تساءلت وأنا أفكر في الأمر:
"وهل هناك تشبيهات أخرى بين الإنسان والنبات في السنة؟"
قال الحكيم:
"كثيرة! ألم تسمع الحديث الذي شبه فيه النبي ﷺ المؤمن بالخامة من الزرع؟ قال: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تصرعها مرةً وتعدلها أخرى، حتى يأتيه أجله، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على الأرض، حتى يكون انجعافها مرة واحدة". أي أن المؤمن يمر بالمحن فينحني لكنه لا ينكسر، على عكس الكافر الذي يبدو ثابتًا لكنه يسقط فجأة حين تحين نهايته."
قاطعنا طفل آخر وهو يرفع يده متحمسًا:
"وهناك أيضًا حديث الأترجة! حيث شبّه النبي ﷺ المسلم الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فقال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب"."
ضحك الحكيم وقال:
"أحسنتم جميعًا! في كل تشبيه نجد رسالة واضحة: الإنسان ليس كائنًا منعزلًا، بل هو جزء من هذا الكون، متصلٌ بكل شيء من حوله، حتى الأشجار تشبهه وتشترك معه في خصائص الحياة."
سألت الحكيم بحيرة:
"ولكن إذا كنا نحن مثل النبات، فلماذا يعامل الإنسان الأشجار وكأنها بلا روح؟ لماذا يقتلع الغابات ويُهلك الأرض؟"
أجاب الحكيم بحزن:
"لأنه نسي الحكمة من وجوده، ونسي وصية الله في الأرض، فظن أنه مخلوق منفصل عن الطبيعة، لا يتأثر بها ولا يؤثر فيها. لكن الحقيقة أن الإنسان إذا دمّر الأشجار، فكأنه يدمّر نفسه، وإذا حافظ عليها، فهو في الحقيقة يحافظ على حياته."
ثم نظر إلى السماء الملبدة بالغيوم وقال:
"لكن الأمل لم ينتهِ بعد، فإذا فهم البشر أنهم مثل الأشجار، وأنهم لا يستطيعون العيش بدون جذورٍ ضاربة في الإيمان، فإن الأرض ستخضرّ من جديد، وستعود الحياة إلى ما كانت عليه... بل وأفضل."
Comments
Post a Comment