فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (3): قم فأنذر: أولى صفات الدعاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون للناس بشيرًا ونذيرًا، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، الذي اصطفاه الله ليحمل أمانة الدعوة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد،
في لحظة عظيمة من لحظات التاريخ البشري، حين غمر النور غار حراء، نزل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حاملًا كلمات الله الأولى، معلنًا بدء رسالة الخلود. وبعد فترة قصيرة من التهيئة والاستعداد، جاءت الآيات الأولى من سورة المدثر لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنهوض للدعوة إلى الله.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِر}ْ [المدثر: 1-2]، هذا النداء العلوي يحمل في طياته أعظم معاني الاستنهاض والإعداد للداعية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم متدثرًا، فجاءه الأمر الصريح: قم! إنه نداء للتخلي عن الراحة والهدوء، واستبدال ذلك بالجد والاجتهاد، بالعمل المتواصل والدعوة الجادة.
لطائف التفسير وإعداد الداعية
- "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ": نداء بلطف وحب، ينطوي على رفق الله بنبيه وتحننه عليه، ولكنه في ذات الوقت تهيئة وتحفيز لمهمة عظيمة. لا بُدّ للداعية أن يستشعر قرب الله منه وحبه، لكنه لا ينبغي أن يغفل عن المهمة الكبرى.
- "قُمْ": قيام من الراحة إلى الكفاح، من الفردية إلى الجماعة، من الذات إلى الرسالة. على الداعية أن يكون يقظًا، مستعدًا للتحرك في كل لحظة، مدركًا أن الدعوة لا تُؤدى على كسل أو تراخٍ.
- "فَأَنذِرْ": بداية الدعوة هنا بالإنذار، وليس التخويف، بل التحذير الرؤوف، كتحذير الوالد لولده مما يضره. الداعية يجب أن يجمع بين الرحمة والحزم، يحذر بلطف، ويُبشّر بحكمة.
إسقاطات معاصرة
اليوم، يعيش كثير من الدعاة حالة من الفتور أو التردد، وكأنهم في لحظة "تدثر" عن القيام بمسؤولياتهم. قد يكون التدثر اليوم على شكل انشغال بالدنيا، أو خوف من نقد الآخرين، أو توجس من مواجهة تيارات فكرية مضادة. إلا أن النداء القرآني يبقى حيًا، يستنهض الهمم في كل زمان ومكان: "قُمْ فَأَنذِرْ". إنه أمر بالاستيقاظ من السبات، والتحرر من قيود الخوف والوهن، والاستعداد لتحمل الأمانة.
على الداعية اليوم أن يتجاوز حدود راحته، وأن يترك حالة الاكتفاء بالدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل يسعى للتأثير في محيطه المباشر، ويتحمل مسؤولية الإصلاح الحقيقي في واقعه.
ختامًا، فإن أولى صفات الداعية هي اليقظة الدائمة، والشعور بثقل الأمانة، والاستعداد الدائم للقيام بواجب النذارة، مهما كانت الظروف والمحن. وكما استنهض الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "قُمْ فَأَنذِرْ"، فإن النداء ما زال موجهًا لكل من يحمل دعوة الحق.
نسأل الله أن يجعلنا من القائمين بدعوته، المستجيبين لندائه، والصابرين على طريقه.
Comments
Post a Comment