الإسلام والبيئة (40): حين يسبّح النبات لله: أسرار الحياة التي لا نسمعها

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كنّا لا نزال نجلس تحت شجرةٍ عجوز، تتمايل أوراقها مع النسيم كأنها تهمس بشيء لا نسمعه. كانت الأرض من حولنا صامتة، لكن شعورًا غريبًا انتابني، كأن في هذا المكان حياةً خفيةً لا تدركها أعيننا.

قطع أحد الأطفال الصمت وسأل بحيرة:

"لقد أخبرتنا يا حكيم أن الأشجار تمنحنا الحياة بأكسجينها، وظلها، وخشبها، لكن... هل للنبات وظيفة أخرى؟ هل يفعل شيئًا لا نراه؟"

ابتسم الحكيم ونظر إلى الطفل، ثم أشار إلى الشجرة التي نستظل بها وقال:

"نعم يا بني، هذه الشجرة لا تمنحك الظل فقط، بل هي تمجّد الله وتسبّحه كما تفعل أنت تمامًا!"


اتسعت أعين الأطفال دهشةً، وسألتُه أنا بتعجب:

"النبات يسبّح؟ كيف ذلك؟ نحن لا نسمعه يقول شيئًا!"

تلا الحكيم بصوت مهيب:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ الإسراء: 44

ثم تابع بنبرة عميقة:

"كل شيءٍ في الكون يسبّح لله، لكننا لا نفهم كيف! هذه الشجرة التي تراها صامتةً هي في الحقيقة تسبّح الله، تمجّده، وتسجد له!"


رفع طفل آخر يده وقال:

"كيف تسجد الشجرة؟ نحن نسجد بوضع جباهنا على الأرض، فكيف يفعل النبات ذلك؟"

أجاب الحكيم وعيناه تلمعان بحكمة:

"لقد ذكر القرآن سجود النبات فقال:

﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ الرحمن: 6

والنجم هنا هو النبات الذي ليس له ساق، بل يتمدد على الأرض، كالعشب والزهور، بينما الشجر هو النبات ذو الساق المنتصبة كالنخيل والصنوبر. وهذان النوعان يشملان كل نباتٍ على الأرض، ومع ذلك فإنهما يسجدان لله!"


تساءلتُ بفضول:

"إذًا، كيف يكون سجود النبات؟"

أجاب الحكيم مبتسمًا:

"سجوده ليس كسجودك، لكنه طاعته وانقياده لأمر الله، فهو يؤدي وظيفته دون اعتراض. انظر إلى الأشجار، هل ترفض أن تنمو؟ هل تعترض على إخراج الثمار؟ هل ترفض أن تظل خضراء أو أن تذبل حين يأتي أوان الذبول؟ كل شيءٍ في الكون خاضعٌ لله، وهذه الطاعة الكاملة هي شكلٌ من أشكال السجود."


أحد الأطفال قفز بحماس وقال:

"إذًا، كل الأشجار في العالم تسجد وتسبّح؟ حتى تلك الأشجار البعيدة في الغابات؟"

ضحك الحكيم وقال:

"نعم، كلها! حتى تلك الشجرة الجافة التي تراها بلا أوراق، فهي لم تتوقف عن تسبيح الله لحظةً واحدةً. إنها تفعل ما خلقت له، تعطينا الأكسجين، تقدم لنا الطعام، توفر لنا الأخشاب، تداوي مرضانا بأوراقها، وتجمّل الأرض بجمالها، أليس هذا عبادةً عظيمة؟"


شعرتُ بشيء من الخشوع، لم أفكر يومًا أن الأشجار التي نظنها صامتة هي في الحقيقة تسبّح الله كل لحظة. التفتُّ إلى الحكيم وقلت:

"إذًا، حين نقطع شجرة بلا سبب، كأننا نطفئ صوتًا من أصوات التسبيح في الأرض!"

أومأ الحكيم برأسه وقال:

"بالضبط! ولذلك نهى الإسلام عن قطع الأشجار بلا ضرورة، بل جعل النبي ﷺ غرس شجرة من أعظم الأعمال، فقال:

"إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ".

انظروا كيف جعل الإسلام زراعة شجرة واحدةٍ أمرًا يستحق أن يُفعَل حتى في آخر لحظةٍ من الحياة!"


ساد الصمت بيننا، كأننا جميعًا صرنا نسمع التسبيح الذي لم نكن نفقهه من قبل. كنت أنظر إلى الأشجار من حولي بعينٍ جديدة، لم تعد مجرد نباتات، بل صارت كائناتٍ حيةً تمجّد الله في كل لحظة، كأنها تقول لنا: 

"نحن نؤدي دورنا... فهل تؤدون أنتم دوركم؟"

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام