الإسلام والبيئة (43): حين يصبح الغرس عبادة: زراعة الحياة في الدنيا والآخرة

 

سلسلة الإسلام والبيئة

جلس الأطفال حول الشيخ الحكيم، وقد بدا على وجوههم الشغف والاهتمام. قال أحدهم:

"لقد تحدثنا عن جمال النبات، وعن تسبيحه وسجوده لله، ولكن ماذا عن دورنا نحن؟ هل مجرد الاستفادة منه يكفي؟"

ابتسم الشيخ، ثم قال وهو يمسك بحفنة من التربة بين يديه:

"الإسلام لا ينظر إلى الزراعة والغرس كمجرد عمل دنيوي، بل يراها عبادة وصدقة جارية تمتد آثارها حتى بعد موت صاحبها. أرأيتم كيف أن الإنسان قد يغرس شجرة لا يأكل منها شيئًا، ولكنها تظل تعطي لغيره من البشر والحيوانات؟"

ثم تابع قائلاً:
"
لقد قال رسول الله ﷺ: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة" (رواه البخاري ومسلم). فكل ثمرة، كل ورقة، كل ظل يستظل به إنسان أو طائر، هو صدقة تكتب لك في ميزان حسناتك!"


قاطعه أحد الأطفال بحماس:

"وهل يكفي أن نغرس الأشجار فقط عندما يكون لنا مصلحة فيها؟"

هزّ الشيخ رأسه وقال:

"لا يا بني، الإسلام يحث على الغرس حتى في أشد الظروف، بل حتى لو علم الإنسان أنه لن يجني ثمار ما زرعه! ألم تسمعوا حديث النبي ﷺ؟ قال: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها" (رواه أحمد). تخيلوا! حتى لو علم الإنسان أن نهاية العالم قد اقتربت، لا يزال الغرس مطلوبًا منه، لأن الأمر ليس فقط في النتيجة المادية، بل في نية التقرب إلى الله والعمل الصالح."

ثم أضاف الشيخ وهو ينظر إلى أحد الأطفال الجالسين:

"وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم. يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ برجل مسنّ يدعى خزيمة بن ثابت، فرآه قد توقف عن غرس أرضه، فقال له: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال الرجل: أنا شيخ كبير، سأموت غدًا! فقال له عمر: عزمت عليك لتغرسنها. فغرسها خزيمة، وأصبح زرعه وقفًا لمن بعده."


ابتسم الأطفال بدهشة وإعجاب، لكن الشيخ لم ينتهِ بعد. قال لهم:

"حتى رسول الله ﷺ لم يكن مجرد متحدث عن الزراعة، بل كان قدوة عملية. أتدرون قصة سلمان الفارسي؟ كان عبدًا، وأراد شراء حريته، فاشترط عليه سيده أن يدفع أربعين أوقية من ذهب، وأن يغرس له ثلاثمائة نخلة. فجمع الصحابة له المال، ثم اجتمعوا جميعًا لغرس النخل، وكان النبي ﷺ بنفسه هو من يضع الفسائل في الأرض ويهيل عليها التراب! وهكذا اجتمع في هذا الحدث معنيان عظيمان: تحرير الإنسان وإعمار الأرض."

سكت الشيخ قليلًا، ثم قال:

"لا تزال مزرعة تلك النخلات قائمة حتى اليوم في المدينة المنورة، وتُعرف باسم الميثب. إنها شاهدة على أن الغرس في الإسلام ليس مجرد زرع شجرة، بل زرع للحياة في الدنيا، وزرع للحسنات في الآخرة."


نظر الأطفال إلى بعضهم البعض بحماس، ثم قال أحدهم:

"إذن، علينا أن نزرع ليس فقط لنأكل، بل لأن ذلك عبادة وطاعة!"

ابتسم الشيخ وقال:

"أحسنتم، وهذا هو الفهم العميق لرسالة الإسلام في إعمار الأرض."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام