الإسلام والبيئة (45): ظلال الإيمان: عندما كانت المساجد واحات خضراء
وسط عالمٍ قاحل لا شجرة فيه ولا ظل، وقف أحد الأطفال بجوار الحكيم، يتأمل أطلال المدينة التي كانت يومًا تعج بالحياة. كان الغبار يملأ الهواء، والشمس ترسل لهيبها بلا رحمة. التفت الطفل إلى الحكيم وقال بحزن:
— هل كانت هناك أشجار هنا؟ هل كانت المساجد حقًا واحات خضراء؟
ابتسم الحكيم، وأشار إلى صورة قديمة، كانت تعرض مسجدًا تحيط به الأشجار، تمتد ظلالها على ساحته الرحبة، وتتناثر ثمارها بين المصلين. ثم قال بصوت هادئ:
— نعم، يا بني، كان الإسلام منذ قرونه الأولى يرعى الجمال في بيوت الله، ويجعل من المساجد مراكز روحية وجسدية للراحة، ليس للإنسان فقط، بل للطير والحيوان أيضًا.
رفع الطفل حاجبيه بدهشة وسأل:
— وهل كان هذا تشريعًا دينيًا؟ أم أنه مجرد اجتهاد بشري؟
هنا تدخلت إحدى الفتيات اللواتي كن يستمعن للنقاش وقالت بحماس:
— لا، بل هو من صميم الفقه الإسلامي! فقد رأى بعض العلماء، خصوصًا في المغرب والأندلس، أن غرس الأشجار في أفنية المساجد ليس مجرد ترف، بل ضرورة شرعية وجمالية!
أومأ الحكيم برأسه وأكمل:
— بالفعل، كان الفقه الإسلامي في أصله يرى أن أفنية المساجد موقوفة على الصلاة، لكن فقهاء المالكية في المغرب والأندلس خالفوا هذا الرأي، فرأوا أن الغرس في المساجد يضفي عليها بهاءً، ويمنح المصلين ظلالًا تحميهم، وتضفي على المكان راحة وسكينة، بل وجعلوا ثمار الأشجار مباحة للجميع، يأكل منها من شاء، دون قيد أو شرط.
اتسعت عينا الطفل وهو يسأل بفضول:
— هل يعني هذا أن بعض المساجد سُمّيت بأسماء الأشجار التي زُرعت فيها؟
ضحك الحكيم وقال:
— تمامًا! فقد كان هناك "مسجد الزيتونة" و"مسجد النخلة" و"مسجد الكرمة"، وأصبحت الأشجار جزءًا من هوية هذه المساجد، بل كانت بعض الأشجار تُعتبر وقفًا، فلا يجوز قطعها ولا منع ثمرها عن الناس.
تنهد الطفل وهو ينظر إلى الأرض الجافة وقال بأسى:
— كأنهم كانوا يعيشون في عالم آخر... عالم مليء بالحياة.
ربّت الحكيم على كتفه وقال بحزم:
— بل كانوا يعيشون وفق تعاليم دينهم، الذي جعل إعمار الأرض جزءًا من العبادة، وجعل الزراعة والغرس من أعظم القربات إلى الله.
هنا، رفعت طفلة يدها وقالت وهي تقرأ من ورقة مهترئة كانت تمسكها بيديها الرقيقتين:
— "فالزراعة من أعظم الأسباب وأكثرها أجراً، إذ أن خيرها متعدٍّ للزارع ولإخوانه المسلمين وغيرهم من الطير والبهائم والحشرات، فكل ذلك ينتفع بزراعته حتى إنه ليقال لو سمع من يقول نأكل منه حين زرعه لم يزرع شيئًا لكثرة من يقول نأكل منه."
ابتسم الحكيم وقال:
— أحسنتِ يا بُنيّتي، هذا قول ابن الحاج العبدري، وهو يعكس الفلسفة الإسلامية في الزراعة، فهي ليست مجرد وسيلة للعيش، بل عبادة وقربة وصدقة جارية.
ساد الصمت قليلًا، ثم قال الطفل بإصرار:
— علينا أن نعيد غرس الأشجار في كل مكان، حتى لو لم نكن سنراها تكبر.
نظر إليه الحكيم بإعجاب، وقال:
— أحسنتَ يا بني... هذا بالضبط ما كان يفعله أجدادك.
Comments
Post a Comment