الإسلام والبيئة (48): التعاون الفلاحي.. عندما يصبح الإعمار مسؤولية جماعية

 

سلسلة الإسلام والبيئة

وقفت مع الحكيم في ظل شجرة يابسة، وكأنها تعاند الموت الذي حلّ بكل شيء حولها. كان الأطفال يتحلقون حولنا، ينتظرون حديثه بشغف. نظر إليّ الحكيم قائلاً:

"هل تظن أن الناس كانوا قادرين دائمًا على استصلاح الأرض بمفردهم؟"

ترددت قليلًا، ثم قلت:

"لا، لا بد أن هناك من لا يملك أرضًا، أو لا يملك المال أو الجهد الكافي للعمل فيها."


ابتسم وأشار إلى الأطفال قائلاً:

"الإسلام لم يترك هذه العقبات دون حل، بل وضع أنظمة تعاونية تجعل استصلاح الأرض مسؤولية جماعية، بحيث يعمل من يملك المال مع من يملك الجهد، ومن يملك الأرض مع من يملك الخبرة."

قاطعه طفل وهو يرفع يده بحماس:

"وكيف يتم هذا التعاون؟"

أجاب الحكيم:

"هناك ثلاثة عقود رئيسية نظمها الفقه الإسلامي لتشجيع التعاون في الزراعة، وهي: المساقاة، والمزارعة، والمناصبة."


عقد المساقاة: الزراعة تكافلٌ قبل أن تكون تجارة

قال الطفل الصغير متسائلًا:

"ماذا تعني المساقاة؟"

أجاب الحكيم وهو يشير إلى الأشجار المحيطة بنا:

"المساقاة مأخوذة من السقي، وهي اتفاق بين صاحب بستان وعامل، حيث يعتني العامل بالأشجار ويسقيها حتى تُثمر، فيتقاسم الاثنان المحصول وفق اتفاق مسبق. وهذا العقد ساعد على الحفاظ على الأشجار المثمرة، لأن كثيرًا من أصحاب البساتين لم يكونوا قادرين على رعايتها بأنفسهم."

ثم التفت إليّ قائلاً:

"رغم أن الإسلام يمنع العقود المجهولة، إلا أنه استثنى المساقاة لما فيها من منفعة للمجتمع. بل يمكن اعتبارها اليوم عقدًا بيئيًا بامتياز، لأنها تشجع على الحفاظ على الأشجار، وبالتالي تحمي البيئة وتساهم في زيادة الغطاء النباتي."


عقد المزارعة: العمل لمن لا يملك أرضًا

تدخل طفل آخر قائلاً:

"وإذا لم يكن هناك أشجار، بل أرض زراعية فقط؟"

ضحك الحكيم وقال:

"هنا يأتي عقد المزارعة، حيث يعطي صاحب الأرض أرضه لمن يزرعها ويرعاها، ويتفقان على تقاسم المحصول. كان هذا النظام حلًا عبقريًا لمساعدة الفقراء على العمل دون الحاجة إلى امتلاك أراضٍ. كما أنه أنقذ الأراضي المهجورة من البقاء بورًا."

تنهدت وأنا أتأمل الأرض القاحلة من حولي، وقلت:

"لو استمر العمل بهذه العقود، لما أصبحت هناك أراضٍ مهجورة كما أرى الآن."


عقد المناصبة: شراكة في الغرس والإثمار

رفع طفل آخر يده وسأل:

"وهل هناك عقد آخر غير المساقاة والمزارعة؟"

هزّ الحكيم رأسه وقال:

"نعم، عقد المناصبة، وهو عندما يسلّم صاحب الأرض أرضه لمن يقوم بإعدادها وزراعتها أو غرس الأشجار فيها، ويتفقان على نسبة من الناتج. وهذا العقد كان يُستخدم كثيرًا في الأراضي غير المستصلحة، حيث يتيح لمن يملك الخبرة أن يزرع الأرض ويحولها إلى جنة خضراء."

التعاون الفلاحي.. هل نعود إليه؟


كنت أشعر بثقل الكلمات، فقلت بصوت خافت:

"وكأنّ الإسلام جعل الأرض ملكًا لمن يزرعها، وليس لمن يخزنها في سجلات ملكية دون أن يستفيد منها أحد."

أومأ الحكيم برأسه قائلاً:

"نعم، ولهذا ازدهرت الزراعة في العصور الإسلامية، وانتشرت الحدائق والبساتين، بينما نجد اليوم من يكدّس الأراضي بلا فائدة، فتتحول إلى صحراء موحشة. أخبر أهل زمانك أن الأرض لا تحيا إلا بالتعاون، وأن الإسلام سبق كل النظريات الحديثة في جعل البيئة مسؤولية جماعية."

نظرتُ إلى الأطفال حولي، ورأيتُ في عيونهم الأمل، رغم الخراب الذي يعيشون فيه. 

ترى، هل يمكن أن نصلح ما فسد قبل فوات الأوان؟

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام