فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (4): وربك فكبر: محور التعظيم والتوحيد

 

سلسلة فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين.

بعد أن استنهض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم للقيام بالدعوة والتحذير بقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ}، يأتي التوجيه العظيم التالي: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر}ْ [المدثر: 3]. إنه أمر بالتكبير والتعظيم، لكن مع إضافة تخصيص الربوبية: "وربك"، مما يشير إلى أن هذا التعظيم يجب أن ينبع من إيمانٍ خالصٍ، وتوحيدٍ صادقٍ، لا يخالطه شرك أو رياء.


لطائف التفسير وإعداد الداعية

  • "وَرَبَّكَ": التخصيص هنا يُبرز العلاقة الخاصة بين الداعية وربه؛ فهو ربه الذي خلقه، وربّاه، وأعدّه لهذه المهمة الجليلة. فحين يكبّره، فإنما يعظّم خالقه ومدبّره، ويعلن خضوعه المطلق له.
  • "فَكَبِّر":ْ التكبير هنا ليس مجرد قول لفظي، بل حالة قلبية تعني أن الله أكبر من كل شيء، أكبر من كل المخاوف، وأعظم من كل العراقيل التي تقف أمام الدعوة. إنه تكبير يشمل القلب، واللسان، والعمل. الداعية الحق هو من يعيش التكبير قولاً وفعلاً، فلا يخشى في الله لومة لائم، ولا تغريه فتنة، ولا تضعفه محنة.


إسقاطات معاصرة

في عالم اليوم، حيث تتعدد الملهيات وتتداخل المؤثرات، يغفل الكثيرون عن معنى التكبير الحقيقي. قد نسمع "الله أكبر" في الأذان، وفي الصلاة، لكنها أحيانًا تكون مجرد ألفاظ مجرّدة، لا تمسّ القلب ولا تلامس الروح.

الداعية اليوم يحتاج إلى إعادة استشعار هذا التكبير في كل لحظة. حين يقف أمام سلطان جائر، أو يواجه تيارات فكرية منحرفة، يجب أن يوقن أن الله أكبر من كل ذلك. وعندما يدعوه المال أو الشهرة أو المناصب، يتذكر أن الله أكبر من كل هذه الفتن.

إن تكبير الله في حياة الداعية يعني تصغير ما سواه؛ فلا يتعلق قلبه إلا بالله، ولا يلتفت إلى العوائق مهما عظمت. إنها دعوة لكل داعية أن يعيد ترتيب أولوياته، ويعيد تعظيم الله في قلبه، قبل أن يعظّمه بلسانه.


التكبير وحقيقة الاستعلاء الإيماني

إنّ تكبير الله يعني أن تكون الدعوة إلى الله من منطلق الثقة والعزة، لا الضعف والاستجداء. فالداعية يستشعر أن الله معه، يراه ويسمعه، وأنه سبحانه أكبر من كل مخططات أهل الباطل، وأعظم من كل أعداء الدين.


ختامًا، فإن {وَرَبَّكَ فَكَبِّر}ْ ليست مجرد كلمات، بل منهج حياة، وعقيدة راسخة، يجب أن يعيشها الداعية في كل لحظة، لينطلق في دعوته متوكلًا على الله، لا يخشى إلا إياه.

نسأل الله أن يعظّم ذاتَه في قلوبنا، وأن يجعلنا من الذين يُكبّرونه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم.

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام