الإسلام والبيئة (5): حين كذَّبنا الرزَّاق.. وعاقبتنا الأرض

 

سلسلة الإسلام والبيئة

جلسنا كما اعتدنا في تلك البقعة الجرداء، حيث كانت الأرض شاهدة على ما جناه البشر بحقّها. كنت ما زلت أبحث عن حجج جديدة، بينما راح الأطفال يهمسون بآيات من القرآن، وكأنهم يتلون مرافعة ضد ما كنت أؤمن به.

نظرت إلى الرجل المسن وقلت بجدية:

"ما زلت أرى أننا بحاجة إلى ضبط عدد السكان، الموارد محدودة، ولا يمكن أن تتحمل هذا الكم من البشر. العالم يزداد فقراً، والمجاعات تنتشر، والحل الوحيد هو تقليل عدد المواليد حتى نحافظ على الموارد المتبقية. أليس هذا عين العقل؟"


نظر إليّ الحكيم مليًّا قبل أن يبتسم ابتسامة هادئة، ثم قال بصوت مفعم بالثقة:

"أيها القادم من الماضي، إن فكرتك هذه قديمة بقدم الفلسفات الإلحادية التي نشأت في عصور الجحود. ما إن ينكر الإنسان وجود الله حتى ينكر في الوقت ذاته أنه يعبد ربا رزاقًا كريمًا واسع الفضل، فيظن أن الكون تحكمه المصادفات، وأن موارده محدودة بشكل كارثي، وأن البشر سيتقاتلون حتمًا على لقمة العيش. لكن، ألم يخلق الله الأرض وقدّر فيها أقواتها؟"

ألم يقل سبحانه:

﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ (فصلت: 10)؟

قطع أحد الأطفال كلامه مرددًا:

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (هود: 6).


رمقني الحكيم بنظرة ذات مغزى وقال:

"لكن الإنسان الذي كفر بربه، كفر برحمته وبضمانه لرزقه، فانطلق يصارع الطبيعة بدل أن يعيش في تناغم معها. رأى أن الموارد لا تكفي، فابتكر نظريات قاسية لتحديد النسل، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل رأى أن البشر ليسوا سوى أعداد زائدة يجب التخلص من بعضها. أنشئت البرامج القسرية، أُجريت عمليات التعقيم الإجباري، وسُنَّت القوانين التي تحرم الإنجاب إلا بحدود ضيقة. والنتيجة؟ مجتمعات تشيخ قبل أوانها، شعوب تفقد قدرتها على التجدد، واختلال في الميزان البشري والاقتصادي."

أتدري لماذا؟ لأن هؤلاء تجاهلوا آية أخرى:

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).


تلعثمتُ للحظة، ثم قلتُ مترددًا:

"لكن الفقر حقيقة، والمجاعات قائمة، ألا يدل ذلك على أن الأرض غير قادرة على توفير ما يكفي للجميع؟"

أجابني بحزم:

"لا يا صديقي، بل يدل على أننا نحن من خلقنا المشكلة! الأرض كافية وزيادة، ولكن المشكلة في سوء التوزيع، وفي الطمع، وفي أن البعض ينهب بينما البعض الآخر يجوع. هذه المجاعات لم تأتِ من نقص في الموارد، بل من ظلم البشر لأنفسهم ولإخوانهم.

أليست هذه الآية صريحة؟

﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).


إنّ الأزمات ليست قَدَرًا حتميًا، بل نتيجة مباشرة لأفعال البشر، للفساد، وللاستغلال الذي جعل قلة تستأثر بكل شيء بينما تحرم منه الملايين.

تداخل صوت طفل آخر وهو يقول:

﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ (الشورى: 30).

تنهد الحكيم وأضاف:

"حين فقد البشر الإيمان بالله، فقدوا الإيمان بالعدل، فقدوا الإيمان بالتكافل، فقدوا الإيمان بأنّ في الأرض ما يكفي الجميع إن تحلَّى الناس بالأخلاق والقِيم. أرادوا أن يضعوا قوانينهم الخاصة، فنزع الله البركة من حياتهم. وحين احتكروا الموارد، وانتشر الإسراف والتبذير في جانب، والجوع والحرمان في جانب آخر، بدأوا بالصراخ قائلين: الأرض لا تكفي الجميع!"


ساد الصمت لبرهة، ثم نظرتُ إلى الرجل المسن وسألتُ السؤال الذي بات يلحّ عليّ:

"إذن، أنت تقول إن المشكلة ليست في الموارد، بل في إدارتها؟ ليست في عدد البشر، بل في سلوكهم؟"

ابتسم الحكيم وهتف بصوت واثق:

"بالضبط! وليست هذه قناعتي فقط، بل هذه هي الحقيقة التي أقرَّها رب هذا الكون منذ الأزل. كل من آمن به وآمن بعدله، لن يخشى على رزقه، ولن يفكر بمنطق الإبادة الجماعية والتقليص القسري للبشر. إنما يخشى من ذلك من فقد الإيمان، فراح يعبد المادة والمنفعة بدل أن يعبد الله الرزاق الكريم!"

أطرقت رأسي مفكرًا، وكان الأطفال يرددون في صوت واحد آية تلخص كل شيء:

"﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾..."

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام