الإسلام والبيئة (52): الجنة الخضراء... حين غرسها المسلمون على الأرض

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كان المشهد أمامهم مؤلمًا... أرضٌ قاحلة تمتد بلا نهاية، وكأنّ الحياة قد تخلّت عن هذا المكان. وقف الحكيم وسط الأطفال الذين كانوا يحدقون في الخراب حولهم، وقال بصوت حزين:

"هل تصدقون أن بلاد المسلمين كانت يومًا جنات خضراء؟"

نظر إليه الأطفال بدهشة، فقال أحدهم:

"لكن كيف؟ كل ما نعرفه عن الماضي هو الجفاف والتصحر والحروب!"

ابتسم الحكيم وقال:

"ذلك لأنكم لم تروا الأندلس، ولم تتجولوا في حدائق دمشق، ولم تسمعوا عن جنان فاس..."


قاطعه طفل بفضول:

"هل كانت هناك حدائق عظيمة مثل التي في القصص؟"

أومأ الحكيم قائلاً:

"بل وأكثر من ذلك، فقد استلهم المسلمون حبهم للطبيعة من القرآن الكريم، الذي وصف الجنة بلونها الأخضر، لأن الخضرة هي رمز النعيم. ألم تسمعوا قوله تعالى:

﴿عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ (الإنسان: 21)؟

وقوله:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ (الرحمن: 76)؟"


قال طفل آخر:

"إذن، كانت الحدائق جزءًا من عقيدتهم؟"

"بالضبط!" قالها الحكيم بحماس، ثم تابع:

"لقد عشقوا الخضرة لأن الله مدحها في كتابه، فوصف الحدائق بأنها ذات بهجة، وجعلها جزاءً للمتقين، كما قال سبحانه:

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ۝ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ (النبأ: 31-32)

فلم يكتفوا بقراءة الآيات، بل حوّلوها إلى واقع، فانتشرت الحدائق في مدنهم، وكان لكل سلطان بستانه الخاص، يحرص عليه كأنه جوهرة ثمينة."


قالت طفلة وهي تتخيل المشهد:

"وهل كان الحكّام يهتمون بالزراعة؟"

ضحك الحكيم قائلاً:

"لم يكن اهتمامًا عاديًا، بل كان شغفًا! خذي مثلًا هشام بن عبد الملك، الخليفة الأموي، الذي أنشأ بستانًا ضخمًا خارج دمشق، وكان يسمى بستان هشام. كما أقام بساتين رائعة في الرصافة، حيث كانت جنات مصغرة عن بساتين دمشق. كان يهتم بأدق التفاصيل، حتى أنه وبّخ من كانوا يجمعون الزيتون بعنف، وقال لهم:  لا تنقضوه نقضًا فتُفقأ عيونه وتُكسر غصونه!"


تدخل طفل آخر وقال:

"وهل استمرت هذه الحدائق بعده؟"

هز الحكيم رأسه قائلاً:

"ليس فقط استمرت، بل تطورت أكثر! حفيده عبد الرحمن الداخل نقل هذه الفكرة إلى الأندلس، فأنشأ هناك حديقة الرصافة، حيث جمع فيها أغرب النباتات وأجمل الأشجار من كل أنحاء العالم. بل حتى ملوك بني نصر بالأندلس، مثل السلطان محمد الثاني، أنشؤوا حدائق مثل جنة العريف، التي صممت على مدرجات متناسقة، ولا يزال بعض منها باقيًا إلى اليوم شاهداً على روعة فن العمارة الإسلامية."


سأل طفل آخر بدهشة:

"هل كان لكل مدينة حديقة خاصة بها؟"

أومأ الحكيم قائلاً:

"أجل، في المغرب مثلًا، كانت هناك حدائق عظيمة مثل حدائق شالة وقصبة الأوداية، لكن أشهرها جنان السبيل في فاس، الذي أنشأه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في القرن الثامن عشر. كان يمتد على ثمانية هكتارات، ويضم ألف نوع من النباتات، منها أنواع نادرة لا توجد إلا في الصين والهند!"


قالت طفلة باندهاش:

"كانوا يحبون الحدائق لهذه الدرجة؟"

ابتسم الحكيم وهو ينظر إلى السماء قائلاً:

"بل كانوا يغرسونها حتى داخل بيوتهم، فقلّما تجد بيتًا مسلمًا قديمًا يخلو من شجرة أو حديقة صغيرة، لأنهم كانوا يعلمون أن الخضرة ليست مجرد زينة، بل حياة."


ساد الصمت للحظات، قبل أن يقول أحد الأطفال بصوت حزين:

"لكن أين ذهبت كل هذه الجنة؟"

نظر الحكيم إليهم بحزم وقال:

"ذهبت عندما نسي الناس أن الجمال الذي لا يُحافَظ عليه... يضيع. فهل ستعيدونه؟"

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام