الإسلام والبيئة (59): مدينة بلا روائح كريهة... فقه النظافة في خدمة الإنسان
جلس الأطفال حول الحكيم، يتأملون الأفق البعيد حيث تنبعث روائح كريهة من جهة بعيدة. لم يكن هذا المشهد مألوفًا، لكنّ الرياح حملت إليهم شيئًا مما يحدث في أماكن أخرى.
قال أحد الأطفال وهو يغلق أنفه:
"كيف يمكن لبعض الناس أن يتحملوا العيش وسط هذه الروائح؟!"
ابتسم الحكيم وقال:
"هذا لأنهم لم يفكروا في الأمر كما تفكرون الآن. قد يعتاد الإنسان على أي شيء حتى لو كان ضارًا. لكن الإسلام لم يترك الأمر بلا توجيه، بل وضع قواعد تحافظ على نقاء الهواء وتحمي الإنسان من أضرار الروائح الكريهة."
نظر الأطفال إليه باهتمام، فأكمل:
"لقد تعامل الفقه الإسلامي مع هذه المشكلة منذ قرون، حينما كانت المدن الإسلامية تُبنى على أساس نظافة الهواء، فكان الفقهاء يمنعون إقامة الأنشطة التي تصدر منها روائح كريهة بجوار المساكن، كالدباغة، وبيع الأسماك، وأماكن تجميع القمامة."
قاطعته طفلة بدهشة:
"أتعني أن الناس في الماضي لم يضعوا القمامة قرب بيوتهم؟!"
ضحك الحكيم وقال:
"بالطبع لا! بل كانوا يبعدونها إلى أماكن مخصصة، وكان لكل حرفة مكانها المناسب بعيدًا عن الأحياء السكنية. ولهذا، كانت المدن الإسلامية نظيفة، لا تعاني من التلوث البيئي كما نراه اليوم."
رفع طفل آخر يده قائلاً:
"ولكن ماذا لو أن شخصًا فتح دكانًا يبيع فيه أشياء تنبعث منها روائح كريهة، وهو يعتمد عليها في رزقه؟ هل يحق منعه؟"
أومأ الحكيم برأسه قائلاً:
"في الإسلام، لا يجوز أن يحقق الإنسان مصلحته الخاصة على حساب ضرر الآخرين. ولهذا، وضع الفقهاء قاعدة: لا ضرر ولا ضرار. فلا يجوز لأحد أن يفتح مكانًا يضر بجيرانه، سواء برائحة أو بدخان أو بأي نوع من الإيذاء. وإذا أراد أن يستمر في عمله، فعليه أن يتخذ تدابير تقلل من الضرر، كالتنظيف المستمر، واستخدام تقنيات تمنع انتشار الروائح."
قال طفل آخر متحمسًا:
"إذن، لو طبق الناس هذه القواعد، لما وجدنا مدنًا تختنق بالروائح الكريهة؟"
أجاب الحكيم بحزم:
"بالضبط! ولهذا نجد أن الإسلام لم يكتفِ بالأحكام الفقهية فقط، بل شجع الناس على النظافة في كل شيء. فقد كان النبي ﷺ يعشق الروائح الطيبة، وكان يأمر المسلمين باستعمال الطيب والسواك وتنظيف الفم، حتى لا يتأذى الآخرون من روائح غير محببة."
تدخلت الطفلة مجددًا وهي تتذكر حديثًا سمعته من قبل:
"أليس هناك حديث عن البصل والثوم؟"
ضحك الحكيم وقال:
"أحسنتِ! قال النبي ﷺ: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (رواه مسلم). فحتى في أماكن العبادة، حيث يتجمع الناس، كان الإسلام حريصًا على نقاء الهواء."
هزّ الأطفال رؤوسهم موافقين، ثم قال أحدهم:
"لكن في زماننا هذا، لم تعد المشكلة مجرد محلات صغيرة، بل أصبحت هناك مصانع عملاقة ومكبات نفايات ضخمة تلوث الهواء."
تنهد الحكيم وقال:
"وهنا يأتي دور المسؤولين وصنّاع القرار. لو فهموا فقه الإسلام في حماية البيئة، لحرصوا على إيجاد حلول تضمن عدم انتشار الروائح الكريهة، مثل إنشاء محطات معالجة النفايات بعيدًا عن المدن، واستخدام تقنيات تمنع انبعاث الغازات السامة، وتشجيع حملات النظافة العامة."
ثم أضاف بابتسامة:
"لكن حتى لو لم يفعلوا، يبقى لكل فرد دوره. فلو بدأ كل واحد بتنظيف محيطه، والحرص على ألا يكون سببًا في نشر أي رائحة كريهة، لكنا في عالم أكثر نقاءً."
نظر الأطفال إلى بعضهم بحماس، ثم قال أحدهم:
"سنبدأ من الآن! لن نلقي القمامة إلا في أماكنها، وسنحرص على أن تكون بيوتنا وأحياؤنا نظيفة. فالإسلام دين النظافة، ونحن سنكون خير من يطبقه!"
ابتسم الحكيم وهو يرى في عيونهم الأمل، فقد أدركوا أنّ التغيير يبدأ من الإنسان نفسه، وأنّ فقه الإسلام ليس مجرد أحكام، بل هو منهج حياة يصنع مدنًا أنقى، وأرواحًا أصفى.
Comments
Post a Comment