الإسلام والبيئة (6): عندما تكلمت الأرض.. شهادة الكون على عظمة الرزق الإلهي

 

سلسلة الإسلام والبيئة

الركام... كل ما تبقى من الأرض

كنتُ أقف هناك، فوق أنقاض الحضارة، حيث لا ظلّ لشجرة، ولا زقزقة لعصفور، ولا نسمة هواء تحمل عبق الحياة. صمتٌ ثقيل يخنقُ المكان، لا يقطعه سوى صوتُ الرياح وهي تذرو رمادَ ما كان يومًا عالَمًا يعجّ بالحياة. تأمّلتُ الركامَ تحت قدمي، حجارة محترقة، وبقايا هياكل حديدية كانت يومًا ناطحات سحاب، وقِطع زجاج مهشّم تعكس شمسًا باردة لا حياة فيها.

وهنا، وسط هذا المشهد الموحش، طافت بي الأفكار... كيف وصلنا إلى هذا الدمار؟ كيف أغفلنا تلك الآيات التي نقشها الله في الكون، تخبرنا أن الأرض أمانة لا مُلك؟ كم من تحذير جاء، وكم من رسالة أُرسلت، لكن البشر اختاروا الصمم؟


لو أن الإنسان تأمل هذا الكون البديع، لوجد أن الأرض لم تكن يومًا بخيلةً في عطائها، ولا السماء شحيحةً في بركاتها. منذ الأزل، والخالق سبحانه قد بثّ في هذا العالم أسباب الحياة، وسخّر للبشر من الخيرات ما يكفيهم وأكثر. ومع ذلك، يأتينا من يزعم أن الموارد نادرة، وأن هذا الكوكب يئن تحت وطأة البشر، فلا بد من تقليل عددهم، بل وربما القضاء على بعضهم باسم "حماية الأرض"!

لكن، لنسأل الأرضَ نفسها: 

هل ضاقت بأهلها؟ هل بخلت السماء بمائها؟ وهل جفّت خزائن الكون؟


أرضٌ ممدودة.. ورزقُ لا ينفد

لقد جعل الله الأرض ممهدةً مستقرةً، وأرسى فيها الجبال لتكون أوتادًا تمنع اضطرابها ﴿وَأَلْقَىٰ فِي ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: 15]. ومدّها بنهر من العطايا لا ينقطع، فأنزل الماء بقدر معلوم، وجعله مخزونًا في ينابيع الأرض، يتجدد عبر دورة متقنة ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُۥ يَنَٰابِيعَ فِى ٱلْأَرْضِ﴾ [الزمر: 21]. 

فهل سمعنا يومًا أن السماء قد أغلقت أبوابها؟ أم أن البشر هم الذين أفسدوا الأرض، فاختلّ ميزانها؟


كنوز الأرض.. والبحر يفيض بالعطايا

ليس الماء وحده، بل أودع الله في الأرض من الكنوز ما لا يحصى، فمن جبالها تخرج المعادن، ومن بحارها تستخرج اللآلئ، وفي أعماقها مخازن من النعم ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النحل: 14].

إنها ثروات عظيمة، ولكن السؤال: 

هل الأزمة حقًا في قلة الموارد، أم في سوء التوزيع، وطمع قلة تتحكم في أرزاق البشر؟


الزراعة.. وصوت الأرض الناطق

حينما ينظر الإنسان إلى سنبلة قمحٍ تتمايل تحت أشعة الشمس، فليتذكر قوله تعالى: ﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة: 63-64]. إن هذا الحَبّ الذي يُلقى في الأرض، ليخرج بأمر الله، فلو شاء لم ينبت، ولو أراد لجعله هشيمًا تذروه الرياح.

ورغم ذلك، يأتي من يقول: الأرض لا تكفي الجميع! 

فهل المشكلة في الأرض، أم في الجشع الذي يجعل دولة واحدة ترمي ملايين الأطنان من الطعام في البحر حتى لا تنخفض الأسعار، بينما يموت الملايين جوعًا في دول أخرى؟!


الإسلام.. عقد صلح بين الإنسان وبيئته

الإسلام لا ينظر للكون كعدوّ يجب ترويضه، ولا للأرض كغنيمة يجب نهبها، بل يعلّمنا كيف نعيش بتناغم معها. فهو دين الاعتدال في كل شيء: ﴿وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ﴾ [لقمان: 19]، وينهى عن التبذير ولو في أبسط الموارد: ﴿وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141].

بل إن الإسلام سبق كل قوانين "حماية البيئة" بقرون، فحتى في الحروب، نهى عن قتل النساء والأطفال، وحرّم قطع الأشجار بلا سبب، وأوصى بعدم إهلاك الزرع والحيوان، كما أوصى أبو بكر الصديق جيشه: 

"لا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تقتلوا بهيمةً إلا لمأكلة".


إذن، أين المشكلة؟

المشكلة ليست في الأرض، ولا في مواردها، بل في ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. المشكلة ليست في عدد السكان، ولكن في من يحتكر الطعام، ويشعل الحروب، ويسمم البيئة، ثم يزعم أن الحل هو التخلص من الناس! إنها ليست أزمة موارد، بل أزمة أخلاق.

فهل نعيد حساباتنا، قبل أن تشهد الأرض علينا؟

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام