الإسلام والبيئة (60): حينما يصبح الضجيج خطرًا... فقه الإسلام في مواجهة التلوث الصوتي

 

سلسلة الإسلام والبيئة

كان الأطفال يجلسون حول الحكيم، لكن هذه المرة لم يكن المكان هادئًا كما اعتادوا. على بعد مسافة قصيرة، كان هناك ضجيج شديد صادر عن ورشة إصلاح قديمة، حيث تدوي أصوات المطارق وآلات الحفر، ممزوجة بصيحات العمال المرتفعة.

غطت الطفلة الصغيرة أذنيها قائلة بصوت مرتفع:

"لماذا يجعلون هذا الصوت مرتفعًا هكذا؟ إنه مزعج جدًا!"

ابتسم الحكيم، لكنه لم يرد. انتظر قليلًا، ثم قال بصوت أعلى قليلا:

"أرأيتم؟ اضطررت لرفع صوتي حتى تسمعوني! هذا هو أثر الضجيج... إنه لا يزعجنا فقط، بل يجبرنا على أن نكون جزءًا منه."


قال أحد الأطفال:

"لكن هل يمكن أن يكون الصوت العالي خطيرًا حقًا؟ مجرد إزعاج، لكنه لا يقتل!"

نظر الحكيم إليه وقال:

"بل يمكن أن يكون قاتلًا! هل تذكرون كيف أهلك الله قوم عاد وثمود؟ لقد أهلكهم بصوت شديد القوة، صيحة واحدة كانت كافية لتدمرهم. قال الله تعالى عن عاد:

﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ المؤمنون: 41

وعن ثمود:

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ القمر: 31

وهذا يدل على أن الأصوات القوية يمكن أن تكون مدمرة."


تساءل طفل آخر:

"لكن ماذا عن الأصوات التي نسمعها يوميًا؟ مثل أصوات السيارات، والباعة في الشوارع، والموسيقى العالية، وأصوات الطائرات؟"

أجاب الحكيم:

"هذه الأصوات ليست قاتلة بشكل فوري، لكنها تؤذي الإنسان ببطء. الضوضاء المستمرة قد تتسبب في فقدان السمع، وتوتر الأعصاب، وحتى أمراض القلب. ولهذا، لم يترك الإسلام الأمر دون توجيه، بل دعا إلى الهدوء، وخفض الأصوات، واحترام الآخرين."


رفع طفل يده وقال:

"أعرف آية في القرآن تتحدث عن ذلك! لقمان أوصى ابنه قائلاً:

 ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾" لقمان: 19

هز الحكيم رأسه موافقًا:

"أحسنت! هذه الآية تعلمنا أن رفع الصوت بلا داعٍ ليس دليل قوة، بل هو سلوك مذموم. فلو كان علو الصوت ميزة، لكان صوت الحمار أجمل الأصوات!"


تدخلت الطفلة الصغيرة قائلة:

"وهل كان النبي ﷺ يرفع صوته؟"

ضحك الحكيم وقال:

"بل كان من أهدأ الناس صوتًا. وكان إذا تكلم لا يرفع صوته أكثر مما يحتاجه السامعون. بل حتى في الدعاء، لما سمع بعض الصحابة يرفعون أصواتهم بالتكبير، قال لهم:
"أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا" رواه البخاري


تنهدتُّ بصوت عال وقلتُ بحسرة:

"لكن في مدينتنا اليوم، الضوضاء في كل مكان! السيارات، الدراجات النارية، مكبرات الصوت، حتى الجيران يتشاجرون بأصوات عالية!"

أومأ الحكيم برأسه قائلاً:

"وهذا لم يكن مقبولًا في المجتمع الإسلامي القديم. حتى الفقهاء أفتوا بمنع الأصوات المزعجة التي تؤذي الناس.

فقد روي أن سعيد بن المسيب، وهو من كبار التابعين، دخل المسجد فوجد رجلًا يقرأ القرآن بصوت مرتفع جدًا، فقال لخادمه: اطرد هذا القارئ عني، فقد آذاني!  وكان هذا القارئ هو عمر بن عبد العزيز، لكنه فور أن سمع ذلك، أخذ نعله وتنحى بعيدًا احترامًا للآخرين."


قال أحد الأطفال بدهشة:

"يعني حتى القرآن لا يجوز أن يُقرأ بصوت يزعج الآخرين؟"

أجاب الحكيم:

"نعم، لأن الإسلام يوازن بين العبادة وحقوق الآخرين. حتى العبادات يجب ألا تكون سببًا في إيذاء الناس."


سكت الحكيم قليلًا ثم قال:

"تصوروا أن الفقهاء أفتوا بمنع شخص من كسر النوى في بيته إذا كان الصوت يزعج جيرانه! فكيف بأصوات المصانع، والقطارات، والموسيقى الصاخبة التي تجبر الناس على سماعها؟"

نظر الأطفال إلى بعضهم، ثم قال أحدهم:

"لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ الضوضاء في كل مكان!"

ابتسم الحكيم وقال:

"البداية تكون من أنفسنا. إذا تحدثنا بصوت هادئ، وخفضنا صوت الأجهزة في بيوتنا، واحترمنا هدوء الآخرين، سنكون قد خطونا خطوة نحو بيئة أنقى. ثم يأتي دور المجتمع، حيث يجب أن تُفرض قوانين تحد من الضوضاء، وتُستخدم التقنيات الحديثة لعزل الأصوات المزعجة."


أضاءت عيون الأطفال بالحماس، وقال أحدهم:

"سنبدأ من الآن! لن نصرخ بلا داعٍ، وسنحترم هدوء الآخرين."

ضحك الحكيم وقال:

"وهكذا، تصبحون قدوة لغيركم، وتساهمون في بناء مدينة هادئة... كما أرادها الإسلام!"

Comments

Popular posts from this blog

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (1): صدمة القادم من الفضاء

الإسلام والبيئة (1): رسالة من المستقبل

حوار مع فضائي عن فصل الدين عن الدولة (2): الزنزانة الزرقاء وبداية الرحلة عبر تاريخ الإسلام